مصر والسودان.. والمصير المشترك

TT

لم تكن مناسبة طيبة أن أحضر احتفالا بتقسيم السودان إلى شمال وجنوب، ولكن الأوضاع الرسمية هي التي اضطرتني إلى ذلك. ورأيت «جوبا» عاصمة الجنوب التي لا تزيد على أي عاصمة لمركز بسيط في ريف مصر.

وعندما عدت إلى القاهرة كتبت مقالا بعنوان «السودان بين الأفراح والأتراح» توقعت فيه ما هو حادث الآن من خلافات، بل من صراعات، بين الشمال والجنوب تحركها قوى خارجية لا تريد مصلحة هؤلاء ولا هؤلاء، وإنما تريد مزيدا من التقسيم والتشرذم لكي يصير السودان 4 أجزاء لا جزأين فقط.

الآن أريد أن أتعرض لأمر جديد، ليس من قبيل الأحلام ولا الخيالات، وإنما من قبيل التفكير المستقبلي الاستراتيجي الذي تفرضه أوضاع الإقليمين: مصر وشمال السودان.

هل هناك عناصر مشتركة يمكن أن تؤدي إلى تكامل الإقليمين؟! أم أن هناك عوامل تفرقة أكثر منها عوامل تقارب؟!

تقديري أن العناصر المشتركة أكثر بكثير وأعمق بكثير من عوامل التفرقة. ولننظر أولا إلى أهم العوامل وهو العامل البشري.

انظر إلى المكونات النفسية والثقافية والفسيولوجية لهذا الإنسان الذي يسكن في دلتا النيل جنوب البحر المتوسط، والذي يمتد ليسكن شمال الصعيد (الفيوم وبني سويف)، ثم محافظات وسط الصعيد (المنيا وأسيوط)، ثم محافظات الجنوب (سوهاج وقنا وأسوان)، ثم بعد ذلك جنوبا سكان منطقة النوبة.

انظر إلى هذا التدرج السكاني الذي يتفق في مكوناته الأساسية ويختلف في لون البشرة وأحيانا اللهجة، واتجه بعد ذلك جنوبا إلى شمال السودان، لن تلاحظ فجوة مطلقا، وإنما ستلاحظ امتدادا طبيعيا يقوم على مكونات أساسية واحدة وعلى نفس نمط التدرج الذي سرنا معه من شمال مصر إلى جنوبها، ثم بعد ذلك إلى الإنسان في شمال السودان.

هذا من أهم العناصر في مكونات الدول: شعب الدولة. والمعروف أن الشعب هو الركن الأساسي الأول في قيام أي دولة، ثم يلي ذلك الإقليم الذي يعيش عليه ذلك الشعب. والمكون الثالث لقيام الدولة هو وجود سلطة عليا واحدة لا تنفي تعددا في المحليات والمناطق وما يسمى المديريات أو المحافظات.

وإذا كنا تكلمنا عن الشعب وأوضحنا أن مكوناته الأساسية واحدة ومتجانسة فإن الاختلافات - عندما توجد - تكاد تنحصر في اللون واللهجة. والذي عاش في بلد مثل فرنسا يدرك اختلاف اللون واللهجة بين سكان باريس أو منطقة اللوار أو جبل سان ميشيل وجنوب فرنسا في مارسيليا وشواطئ البحر الأبيض الشمالية - هذه أمور طبيعية.

وإذا كان هذا هو العنصر الأول - السكان أو البشر أو الشعب - فماذا عن الإقليم. الإقليم واحد. امتداده واحد. طبيعته وحدة ولا توجد عوائق «طبيعية» مطلقا تحول بين سيولة الحركة والاتصال الإقليمي، سواء عن طريق النهر - نهر النيل العظيم الذي يجري في الإقليمين - أو عن طريق البر.

وقد نشير هنا إلى أن الجزء من الإقليم الذي يسمى السودان فيه مساحات واسعة تحتاج جهدا في زراعتها. إنها تنتظر الغراس فقط لكي تعطي ثمارها.

الشعب واحد والإقليم واحد. هذه هي الطبيعة الحية. ولكن الواقع الدولي والسياسي يقول هناك دولتان؛ لأن هناك سلطة هنا وسلطة هناك. هذه هي أيضا من الحقائق التي لا يمكن إغفالها أو القفز عليها. ولكن حقائق المستقبل أقوى من هذه المشكلة.

تقديري أن السلطة في كل من البلدين لو كانت معبرة تعبيرا حقيقيا عن «الشعب الواحد» وعن «الإقليم الواحد» وعن المصالح الحيوية للشعب والإقليم لأمكن التغلب على هذه المشكلة.

والبدائل كثيرة. هناك الوحدة الكاملة وهناك الاتحاد الفيدرالي وهناك الاتحاد الكونفدرالي. وتقديري أن الاتحاد الفيدرالي الذي يعترف بالتنوع الإقليمي قد يكون هو أقرب الصيغ.

دفعني لكتابة هذا الذي أكتبه ما تم مؤخرا من زيارة رئيس جمهورية السودان لمصر وزيارة رئيس مجلس الوزراء المصري للسودان.

ودفعني له أيضا ما أعلمه وما أقرأه عن المخططات الأميركية والإسرائيلية لمنطقة الشرق الأوسط من أجل تفتيتها وإضعافها على غير إرادة شعوبها، بل عكس مصلحة هذه الشعوب، والذي يحدث الآن بين شمال السودان وجنوبه دليل على ذلك.

ولست أنفي أنه دفعني لكتابة هذا الذي أكتبه أنني نشأت وأنا شاب صغير في أحضان حزب كان اسمه الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل سنة 1907، ثم عاش هذا الحزب تحت قيادات متعددة إلى أن انتهى في أوائل الخمسينات من القرن الماضي. وكنا في هذا الحزب ونحن شباب صغار نهتف بوحدة وادي النيل ووحدة مصر والسودان، بل قدنا مظاهرات لتأييد مناضل من السودان رشح نفسه في دائرة عابدين لمجلس النواب آنذاك.

هذه هي الجذور فكيف يكون المصير؟!

أرجو أن يتجه لتحقيق مصلحة الشعب الواحد.

والله المستعان.