الأطباء وتفهم مشاعر المرضى

TT

يحتاج الأطباء لأن يتعلموا أصول العلاقة مع المرضى وحدودها، وأن يمارسوا تقديم خدمتهم للمرضى وفق مستوى راق من العلاقات الإنسانية. وما يغيب عن أذهان الأطباء وبقية أفراد الوسط الطبي عند التعامل مع المرضى، هو أنهم أطباء مطلوب منهم أن يقدموا خدمة وظيفية ذات طابع إنساني، تهدف إلى حماية أرواح المرضى وتخفيف آلامهم ومعاناتهم. وغياب الحقيقة هذه عن أذهان أفراد الوسط الطبي أسبابها أكثر من أن تحصى، وأيا كان السبب فإن النتيجة واحدة: طبيب يقدم خدمة للمريض ذات نوعية متدنية من المهنية والإنسانية.

دعونا نحاول الإجابة عن السؤال التالي: كيف يكون التفاعل المطلوب من الطبيب إزاء آلام المريض أو مشاعره الخائفة أو القلقة أو المتوترة؟ بمعنى: هل على الطبيب أن يتفاعل بأن تنشأ لديه في نفسه مشاعر من نوعية الشفقة على المريض إزاء ما يعانيه، أو من نوعية الرحمة التي تفرض على الطبيب خدمة مريضه، أو أن على الطبيب أن «يفصل تماما» ولا يتفاعل شعوريا مع آلام ومعاناة المريض؟

هناك من يرى أن «الفصل التام» يساعد الطبيب على القيام بأداء «عمله» دون أن يكون تحت أية ضغوط نفسية تفرضها عليه مشاعره، وبالتالي ستكون خدمته الطبية أفضل، وهناك من يرى أن صدق الطبيب يتطلب منه أن يشعر بالشفقة على مريضه والقيام بواجبات أداء الرحمة. هل أي من هذه التفاعلات النفسية للطبيب تفاعلات صحية وصحيحة وستؤدي بنا إلى ما هو أفضل في خدمة المرضى ورضاهم؟

حينما يأتي المريض للطبيب ويشكو له من آلامه ومعاناته، فإنه لا يبحث عن «رحمة» أو «شفقة»، بل يبحث عن معالجة تتم بطريقة تتفهم بصدق مشاعر الألم والمعاناة لديه. كما أن المريض، يقينا، لا يبحث عن ذلك الطبيب الذي «فصل تماما» تفاعله مع مشاعر الألم أو المعاناة لدى المريض، مهما كانت مبررات الطبيب حينئذ.

وفي اللغة الإنجليزية كلمة empathy، وهي تعني القدرة على ملاحظة وتفهم مشاعر الغير سواء كانوا واعين أو شبه واعين، وتمت ترجمتها للعربية بكلمة «التشاعر». وهي - وإن كانت «فضيلة» يتسم المرء بها - مختلفة تماما عن فضائل أخرى مثل الرحمة Mercy وعن الشفقة Compassion وعن التعاطف sympathy. والكلمة ظهرت في اللغة الإنجليزية عام 1909 كترجمة لكلمة ألمانية Einfühlungsvermgen بالمعنى المقصود المتقدم.

والشفقة والرحمة والتعاطف مراحل متقدمة على «التشاعر»، وما هو مطلوب من الأطباء أن يتحلوا بصدق وأمانة وعمق وطوال الوقت وفي كل الظروف بالقدرة على ملاحظة وتفهم مشاعر مرضاهم وآلامهم ومخاوفهم وقلقهم ومعاناتهم، وأن يقوموا بأداء خدمتهم الطبية وفق هذا. وهم إن قاموا بتلك الخدمة متحلين بهذه الفضيلة، فإن مرضاهم سيستفيدون من جهود أطبائهم.

وضمن عدد سبتمبر (أيلول) من مجلة «أكاديمك ميدسين» الطبية Academic Medicine، قام الباحثون من جامعة توماس جيفيرسون بفيلاديلفيا ومن منطقة بارما بإيطاليا بتقييم التأثيرات الصحية الإيجابية لتحلي الأطباء بمستويات متفاوتة من القدرة على ملاحظة وتفهم مشاعر مرضاهم.

واستخدم الباحثون «مقياس جيفرسون للتشاعر» Jefferson Scale of Empathy في تقييم درجة تحلي الأطباء بهذه الفضيلة حال التعامل مع المرضى. ووفق هذا المقياس، عرف الباحثون Empathy بأنها العزم على المساعدة وعلى تفهم آلام ومعاناة وهواجس المرضى. وقام الباحثون في إيطاليا بمتابعة هذا لدى نحو 250 طبيبا يعالجون نحو 21 ألف مريض مصابين بمرض السكري ومضاعفاته. وقيم الباحثون نسبة انضباط معدلات السكر hemoglobin A1c test في الدم ونسبة الكولسترول لدى هؤلاء المرضى، كما قيموا نسبة تحلي الأطباء بالتشاعر وفق نتائج استخدام المقياس متقدم الذكر.

ولاحظ الأطباء في النتائج أن ارتفاع مستوى تحلي الطبيب بالقدرة على ملاحظة وتفهم مشاعر مرضاه يعني انضباطا أكبر في معدلات السكر والكولسترول لدى مرضاه، وانخفاضا في معدلات الإصابات بمضاعفات السكري، مثل غيبوبة ارتفاع نسبة السكر بالدم diabetic coma، وحالة الحماض السكري diabetic ketoacidosis، وهما من المضاعفات الخطرة لدى مرضى السكري حينما لا تتم معالجتهم بطريقة صحيحة.

وعلق البروفسور محمد رضا، الباحث الرئيس بالدراسة والبروفسور بقسم النفسية والسلوك البشري، بقوله: «نتائج هذه الدراسة الواسعة تؤكد أن العلاقة المبنية على قدرة الطبيب في ملاحظة وتفهم مشاعر مرضاه empathic physician - patient relationships هي عامل مهم في الحصول على نتائج إيجابية أفضل للمعالجة». وأضاف بالقول: «وتدعم النتائج إرشادات الهيئات الطبية المتخصصة كالرابطة الأميركية لكليات الطب والمجلس الأميركي للطب الباطني في أهمية تقييم ورفع مستوى مهارات طلاب الطب والمتخرجين فيها في التحلي بالقدرة على ملاحظة وتفهم مشاعر المرضى».

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]