.. وليعرف كل إنسان حق «رائد نهضة التنوير الكبرى في التاريخ»

TT

تأكدنا من خلال مقال الأسبوع الماضي: كيف احتفى نبي الإسلام، صلى الله عليه وآله وسلم، بإخوانه الأنبياء جميعا، ولا سيما المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام؟ وكيف قدمهم وعرّف بهم في أجمل وأبهى صورة تحفز على الإيمان بهم ومحبتهم، وهي رسالة أداها نبي الإسلام وينبغي أن يقدرها أهل الكتاب - بخاصة - حق قدرها، وإن لم يؤمنوا بمحمد نبيا ورسولا.

في هذا المقال، ننتقل إلى الدائرة الأوسع، دائرة البشرية كلها، مؤمنها وكافرها، أسودها وأبيضها.. نعم، نبسط القول اليوم في هذه الدائرة الرحبة، أي في أنهار الخير والعلم والمعرفة والحق والكمال والرحمة والجمال التي فجر ينابيعها النبي المحمد فارتوى منها «الإنسان»، من حيث هو إنسان، بغض النظر عن لونه ودينه وجغرافيته، بل بغض النظر عن موقفه من النبي محمد ومن رسالته.. فالنبي المحمد رحمة للعالمين «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين». وهذا الخير الدافق الذي أسداه إلى البشرية، جزء من تلك الرحمة.

والسؤال المفتاح لهذه الدائرة الإنسانية الرحيبة، هو: كيف كانت أحوال العالم البشري قبل بعثة النبي الخاتم؟

يمكن أن نجيب نحن جوابا موضوعيا أمينا عن هذا السؤال، ذلك أن دين محمد نفسه يمنعنا من أن نكذب في التاريخ، وندلس على الناس ابتغاء نصرة الإسلام. فالإسلام لا يُنصر إلا بوسائله الشريفة وفي مقدمتها الالتزام بـ«الصدق والأمانة» في كل الأحوال. بيد أننا في ظل هذا الالتزام نفضل أن نستشهد بشهادات موضوعية تصور أحوال العالم قبل بعثة نبي الإسلام، وهي شهادات نطق بها نخبة من أكابر مؤرخي الغرب ومفكريه:

1) يلخص المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي في الجزء الثاني من كتابه الموسوعي «تاريخ البشرية»، الظروف العالمية التي سبقت نزول «اقرأ» تلخيصا باعثا على الأسى والحزن. فقد استعرض توينبي المستويات الفكرية والسياسية والحضارية للأمم جميعا، والمناطق المعمورة بالناس في هذا الكوكب.. ثم خلص إلى نتيجة مرعبة، وهي، كما يقول: «إن البشرية فقدت (البوصلة) التي تحدد اتجاه مسارها في العلاقات المحلية والدولية، بعد أن قيد حركتها الشلل والجمود، وأصاب عقلها وضميرها أمراض شتى وبيلة».

2) ويقول المفكر الفرنسي المعروف «رينان».. وهو لم يكن صديقا للعرب، ولا لحضارتهم ودينهم، بل كان شانئا في ذلك كله، ومن ثم نشبت بينه وبين الإمام محمد عبده سجالات ملتهبة حول الإسلام وحضارته.. على الرغم من ذلك يقول رينان، في تصوير حالة العرب السابقة: «لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسي والثقافي والديني قبل ذلك الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الذي صار به العرب أمة فاتحة مبدعة، فلم يكن لبلاد العرب شأن في القرون الأولى من الميلاد حين كانت غارقة في دياجير ما قبل التاريخ، ولم يظهر بأسها وبسالتها إلا بعد القرن السادس الميلادي» (بعث النبي محمد في أوائل القرن السادس الميلادي).

إن أحوال العالم بعامة، وأحوال العرب بخاصة كانت - وفق هذه الشهادات الموضوعية - ملفوفة في ظلمة مطبقة. ولقد صوّر نبي الإسلام هذه الأحوال بقوله: «إن الله تعالى اطلع على أهل الأرض جميعا، فمقتهم جميعا عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب».. وهذا الاستثناء العليم الأمين ينطوي على مضامين كثيرة: مضمون الاعتراف لأهل الكتاب بما عندهم من حق.. ومضمون أن الشمعة خير - بلا ريب - من الظلمة المطبقة.. ومضمون أن هذا الاعتراف النبوي قد أصّله القرآن والسنة. فقرب المسلمين النسبي من أهل الكتاب مؤسس على بقايا الحق التي لا تزال بين أيديهم، ومن هنا انحاز المسلمون إلى أهل الكتاب - مثلا - في الصراع الدامي الذي كان دائرا بين فارس وروما.

تلك كانت الظلمة المطبقة في العالم كله، قبل مجيء الإسلام، وابتعاث نبيه صلى الله عليه وسلم. ثم انبثق النور الذي أخرج العالم من تلك الظلمات.. ففي عام 610 للميلاد، نزل الوحي الأعلى، على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم بـ«اقرأ» التي ابتدأ بها نزول القرآن المجيد.

وهذه اللحظة المباركة السعيدة المبهجة كانت «ساعة البدء» في «نهضة التنوير الكبرى» في التاريخ البشري. وكانت بداية البداية هي «استحضار العقل» أولا.. ومن المتفق عليه بين المشتغلين بأدبيات التنوير أن «تحريك العقل» وتنشيطه كان مفتاح نهضة التنوير.. ولسنا نختلف معهم في تقرير ذلك، وإن كان الاختلاف قائما حول «مفهوم التنوير» بوجه عام.

ولئن شئنا تعريف التنوير قلنا، إنه هو «استحضار العقل بعد غيبة، وتحريك طاقة التفكير بعد جمود حتى تبلغ أعلى المعدلات المتاحة لها، وتسديد حركة التفكير بمنهج علمي سديد عاصم من الأوهام، والمعتقدات الفاسدة، والتقليد الضرير.. ثم بناء المعتقد والمفاهيم والأعمال وفق هذا المنهج السديد».

وكانت هذه القاعدة الكبرى هي مفتاح «نهضة التنوير العظمى» التي فجرها وقادها نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذه البداية المفتاح هي ذاتها دليل من أدلة «إعجاز الهداية في القرآن»، أي في بناء الإنسان والحضارة.. كيف؟ إنه من المستحيل أن يبلغ خطاب ديني أو دنيوي مبلغه أو يحقق مناطه الصحيح في حالة غياب العقل، والتحجر الفكري. فالإنسان ذو العقل الجامد أو المعطل لا يعدو أن يكون جلمودا من الجلاميد العاجزة عن الشعور والوعي والاستقبال.. ومن ثم فإن مهمة استحضار العقل والفكر لا تسبقها مهمة أخرى قط.. وهذا نوع من أنواع الإعجاز المنهجي في القرآن: أن يكون أصل المنهج وأوله وبدايته وسياقاته كلها: بناء قاعدة الاستعداد الموضوعي السوي - النفسي والعقلي - لتلقي المنهج والتفكير فيه، وفهمه وإعماله.

وقد يقال: ولكن المهمة الأولى للقرآن هي العقيدة.

والجواب المنهجي هو: أن العقيدة ذاتها لا تفهم ولا تعقل إلا بواسطة عقل حاضر غير غائب.. صاح غير نائم.. سليم غير مجنون.

وهذا هو البرهان من القرآن:

أولا: أن القرآن قد عاب بل نقض العقائد التي تكونت في غيبة العقل:

أ) «قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون».

ب) «ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون».

ثانيا: أن العقيدة الصحيحة تتكون بحضور العقل من خلال النظر السديد في آيات الله الكونية الدالة على وجود الله ووحدانيته: «وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون».

لا جرم أن تفجير منابع التفكير الحر العقلاني هو أعظم أسس «نهضة التنوير» التي أطلقها الإسلام - بقيادة نبيه محمد - في جزيرة العرب: بادئ ذي بدء، ذلك أن تجديد الإحساس والوعي الفكري بالكون وآياته ووحداته المتنوعة معراج سريع ومأمون إلى الإيمان بالله الحق - تباركت أسماؤه - .. ومدخل موضوعي ومنهجي إلى التعامل الصحيح مع الكون: ذراته وسننه وقوانينه.

وإذا صح التعرف إلى الله، وصح الإيمان به.. وصح التعامل مع الكون، فإن نهضة التنوير تكون قد قامت على أرسخ وأوثق أصولها.

وهذا ما حصل بالضبط.

فقد صحت علاقة الناس بالله، فآمنوا بوجوده على نحو سليم، ووحدوه وعبدوه وأحبوه واتصلوا به مباشرة: بلا واسطة من كاهن أو جن.. أو.. أو..

وصحت علاقة الإنسان بالكون فتعامل معه بعلم ومعرفة وخبرة وتجريب، فكانت الثمار كثيرة وحلوة.

والنقطة الأخيرة تتطلب بعض البسط، لأن أقواما يظنون أن أوروبا هي التي سبقت إلى ذلك.. ونستدعي - ها هنا أيضا - نخبة من مفكري الغرب ليدلوا بشهادتهم الموضوعية في هذا الشأن:

أ) يقول غوستاف لوبون في كتابه المهم «حضارة العرب»: «فإذا كانت هناك أمة نقر بأننا مدينون لها بمعرفتنا وحكمتنا فالعرب هم تلك الأمة، قال مسيو ليبري (لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوروبا الحديثة عدة قرون)».

ب) ويقول المؤرخ الإنجليزي هربرت ويلز في كتابه «موجز تاريخ العالم»: «لقد تمت للعرب في حقول العلوم الرياضية والطبية والطبيعية ضروب كثيرة من التقدم، ولا شك أنهم وفقوا إلى مستنبطات هائلة في المعادن، وفي التطبيق الفني لها، ولهذه التطبيقات قيمة قصوى، وأثر عميق في نهضة العلوم الطبيعية في أوروبا».

ج - ويقول المؤرخ الأميركي بول كيندي في كتابه «نشوء القوى العظمى»: «إن قسطا كبيرا من الموروث الثقافي والعلمي الأوروبي هو في حقيقة الأمر مستعار من الإسلام والمسلمين».

وإذ نستنبط من هذه الشهادات أن الأمانة العلمية موجودة عند غير المسلمين، فإننا نلخص المقال في العبارة الآتية وهي: أن كل إنسان على وجه الأرض استفاد من التقدم العلمي والتقني - في هذه الصورة أو تلك - فإن للنبي محمد عليه حقا إنسانيا، وهو أن هذا النبي هو الذي أسس لنهضة التنوير الكبرى في التاريخ الإنساني. فليعرف كل إنسان - ذي عقل وضمير - لهذا النبي حقه، وليدفع عنه أذية الجاهلين، وإساءات الحاقدين، وإن لم يؤمن به:

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه

لا يذهب العرف بين الله والناس