معركة مع الخبيث

TT

كأب لطفلة صغيرة أصيبت بالسرطان في السنة الأولى من عمرها، أهتم كثيرا بما يحدث من تطورات لافتة للتعامل مع هذا المرض الخبيث، وأراقب تحديدا ما يتم الإعلان عنه من أبحاث جديدة ومراكز علاج متقدمة حول العالم. وطبعا تعتبر الولايات المتحدة أهم دول العالم في هذا المجال وأكثرها تميزا؛ فأميركا تبذل جهودا ضخمة عن طريق جامعاتها ومؤسساتها المدنية ومستشفياتها، وتتلقى البلايين من الدولارات كهبات وتبرعات وأوقاف لصالح الأبحاث والدعم الخاص بإيجاد الحلول والعلاج لمختلف أنواع الأورام، أو تقيم برامج وإعلانات وحملات توعية للمجتمع تعرف الناس ببعض الأورام وتحثهم على الفحص المبكر، ومع ذلك وعلى الرغم من كل ما سبق ذكره، فإن هناك حالة تذمر كبيرة وإحساسا بالذنب والتقصير في أميركا بأنهم للآن لم يعطوا موضوع مواجهة السرطان حقه اللازم، وبما أنهم يعتمدون على لغة الإحصاء والأرقام فكانت الدراسة التي أجريت وبينت أن الحكومة الأميركية صرفت فقط مبلغ 5 بلايين دولار على معهد السرطان القومي، وهو الجهة المعنية بمقاومة ومعالجة والتصدي لأورام السرطان بمختلف أشكالها، مقابل مبلغ 144 بليون دولار تم صرفها عام 2008 لوزارة الدفاع الأميركية في مواجهة مشاكل الشرق الأوسط! وهي أرقام مذهلة كأقل تقدير، والسبب في ذلك أن السرطان لا يزال يحصد الكثير من الأرواح، والأرقام أيضا في هذا السياق تقول الكثير جدا. فالإحصائيات توضح أن واحدا من كل رجلين في أميركا سيصاب بالسرطان، وأن واحدة من كل ثلاث سيدات ستصاب بالسرطان، وواحدا من كل أربعة أشخاص سيموت بسببه، وهي أرقام مفزعة توضح أن أنواع السرطانات الفتاكة مثل الدم والرئة والبنكرياس والقولون والمخ والثدي والبروستاتا والكبد والعظام والرحم لا تزال تواصل الانتشار وحصد الأرواح، وذلك على الرغم من التطور المنشود والمشهود الذي حدث في مجالات التوعية والتشخيص والعلاج. ولعل أفضل التطورات التي حصلت هي في مجالات سرطانات الثدي وسرطانات البروستاتا؛ نظرا لتبني شخصيات عالمية ومشهورة حملات التوعية، حيث كانت هذه الشخصيات إما مصابة بالمرض نفسه أو على علاقة قريبة بأحد المصابين، مما أكسب هذه الحملات المصداقية، وبالتالي التعاطف الشعبي الكبير، محققة بالتالي التفاعل مع الناس، وهو الأمر المطلوب.

المشوار لا يزال طويلا جدا؛ فالأبحاث الخاصة بأدوية وعلاج السرطانات مسألة طويلة الأجل وجهدها مضنٍ. وهذا المرض لم يطلق عليه اسم الخبيث من فراغ، فتركيبة خلايا السرطان تخرج من الخلايا الطبيعية، والخلايا الخبيثة المصابة تشبه الخلايا الطبيعية بشكل مذهل ومدهش في معظم الأحيان يصعب التفرقة بينهما (من 23 ألفا من الجينات في الخلايا الطبيعية خلية سرطانية من الممكن أن تشترك في 22.962 ويكون الخلاف فقط في 38 واحدة فقط!)، ولذلك فالتحدي الطبي البحثي كبير ولا بديل بالتالي عن التمويل الكبير. وفي العالم العربي، وباستثناء بعض المبادرات المحدودة جدا سواء على المستوى العام والخاص، فإن التعامل مع مرض السرطان لا يلقى أبدا الاهتمام الكافي سواء أكان للكبار أم للصغار، على عكس أمراض القلب أو الكلى أو العيون مثلا، وهذا الأمر على الرغم من وجود إحصائيات مهمة وموثقة توضح نموا مخيفا في معدلات الإصابة بالسرطان، خصوصا الثدي والبروستاتا والكبد والرئة، وذلك نتاج أسباب كثيرة من ضمنها التلوث والتدهور البيئي وسوء التغذية وافتقار تطبيق النظام الصحي في البيت والمدرسة، ولعل الدكتور الطبيب الهندي الأميركي سيداهرتا موكريجي الذي كتب أعظم كتاب عن السرطان والمعنون «إمبراطور كل العلل» الذي فاز عنه بجائزة بولتزر العريقة للصحافة، وصف هذا الأمر بأنه دون تمويل هائل لن تتمكن دور الأبحاث ولا الجامعات من إنتاج المطلوب لإيجاد الحلول اللازمة لفك شفرات الجينات الخبيثة، وهي مسألة تتطلب جهدا ووقتا وطبعا مالا كثيرا.

العالم أمام حرب خفية على مرض خبيث ولا يقوم بمواجهته إلا القليل من النبلاء، بينما يقبع الباقي على قارعة الطريق يشاهدون دون حراك إيجابي إلا إذا أصابتهم مصيبة. السرطان قنبلة موقوتة تنمو بمعدلات مهولة وشظاياها ستصيب الجميع بلا استثناء، ولذلك مطلب الحراك لعمل شيء بات مسألة لا خيار فيها لأحد. الأمم حضارات، والحضارة خيارها الرئيسي الحراك لما فيه الصالح العام وليس الحديث عنه فقط.

[email protected]