نعم.. البقاء لله فقط

TT

مواصلة لحديثي عن الحرف والأعمال المنقرضة، أشير لسوّاقي الإبل. كان التجار ينقلون بضائعهم على ظهور الإبل من بلد إلى بلد. وبالطبع نشأت حرفة سوْق الإبل في رحيلها والسهر عليها عند استراحتها. هكذا كان الأمر حتى العشرينات من القرن المنصرم عندما جاء الإنجليز والفرنسيون بالشاحنات الآلية (اللوريات) للنقل التجاري. انتفت الحاجة للبعران ومعها الحاجة لرعاة البعران. ومن الصعب لسائق البعران أن يتحول إلى سائق سيارات. هذا وإن كنا نلاحظ معظم سواقي السيارات يسوقون سياراتهم في مدننا العربية بعقلية سواقي البعران.

هبطت أسعار الجمال إلى الحضيض فانتبه تاجر يهودي لذلك في بغداد فاشتراها أملا في أن تخرب الشاحنات بعد قليل ويعود الناس لاستعمال البعران، ولكن ذلك لم يحدث، بل تعاظم عدد الشاحنات والسيارات من كل نوع فأسقط بيد التاجر اليهودي ولم يعد يعرف كيف يتخلص من بعرانه العاطلة ومن تبعاتها وعلفها وحراستها. فسرى المثل في العراق يضرب عن أي شيء يائس، يقولون «أمل اليهود بالأباعر!»، ومع ذهاب البعران انتفت الحاجة لرعاة البعران. كنت في طفولتي أرى بعضهم يشحذ لقطعة خبز من سواقي السيارات في قهاوي عقيل بالكرخ. «صدقة لله! أعطونا مما أعطاكم الله!» لم يهجموا على السيارات ولم يحطموها، كما فعل العمال الإنجليز بمكائن النسيج في القرن التاسع عشر. يظهر أن رعاة الإبل في العراق كانوا أعقل وأنضج من عمال إنجلترا. أدركوا أن عجلة التاريخ أقوى منهم وستسحقهم في دورانها الحثيث.

نعود إلى لندن، وفيها لاحظت رعاة من نوع آخر، رعاة الكنيسة من القساوسة وكهان الكنائس في وضع لا يقل ألما وحسرة. لم يعد الناس يترددون على الكنائس. واختفاء الجمهور يعني في الأخير غلق الكنيسة وتسريح راعيها، وربما بيعها لتصبح مرقصا أو كازينو قمار. حاول بعض الكهان تفادي ذلك بإحياء الحفلات الموسيقية فيها أو إيجارها لمن يحتاج لقاعة محاضرات، حتى لو كانت محاضرات دنيوية ضد المسيحية. ولكن رجال الكنيسة واجهوا مصاعب هنا أيضا. فلم يعتد الجمهور لسماع موسيقى وطرب في كنيسة في ساعات القيلولة من النهار.

كنت أرى راعي كنيسة سان جون في كنسنغتن واقفا على الرصيف يتوسل المارة: تفضلوا للموسيقى مجانا. سوناتات بتهوفن وأغاني شوبرت وسيمفونية من موتزارت. عازفون من أعلى مرتبة. صدقوني وتفضلوا لسماعهم. وكله «ببلاش»! قهوة وبسكويت فيما بعد!

قال لي القس وأشار لكنيسته الفارغة، ولكنني كنت مشغولا فتجاوزته آسفا.

وسرحت في تفكيري. هل سيأتي يوم خلال زياراتي للبلدان العربية والإسلامية أن أرى مسجدا بمثل ذلك الحال، يقف إمام المسجد على الرصيف ويتوسل المارة: وقت الصلاة يا سادة، تفضلوا للصلاة يا عباد الله، خطيب فصيح وبليغ! وبعدين شاي وكعك صدقات.