الصدقات الموسيقية

TT

للصدقات ألوان وأشكال، أقلها نفعا إعطاء قرش لشحاذ جالس على الرصيف، وهو ما قال فيه أبو العلاء المعري:

تسريح كفك برغوثا ظفرت به

أبر من درهم تعطيه محتاجا»

لا أكتب هذه السطور لأدعو لحملة لنجدة البراغيث وتحسين أحوالها. البراغيث في عالمنا العربي لا تحتاج لأي صدقات منا، وهي تعيش وترتع في شتى مجالسنا وأفرشتنا وثيابنا. تمتص دمنا وتأكل من زادنا وهي تتفرج علينا. ما أقصده هو تحويل الصدقات إلى مؤسسات. ونرى منها نماذج عجيبة وطريفة. ولد الطفل السريلانكي شيفن مبتلى بالنقص العقلي المسمى بـ«الأوتستك». وهي حالة عقلية نادرة والحمد لله تتمثل في عدم قدرة الطفل على التفاعل مع محيطه وأسرته.. فهو لا يستمع إليها ولا يتكلم معها ويعيش منطويا كليا في عالمه الخاص الصغير. حاول والده معالجته بشتى المعالجات الطبية العقلية دون جدوى. لكنه في الأخير اهتدى لهذا العلاج الذي كسر الطوق، وكان العلاج بالموسيقى (music therapy). تبين أن المبتلين بهذا النقص يستجيبون للموسيقى ويتخذونها لغة لهم يعبرون بها عما في ذهنهم. سُر الوالد بهذا الفتح المبين، واستعمل ثروته في تأسيس مركز في سريلانكا لمعالجة الأطفال المتخلفين بالموسيقى. وفتح صندوقا خيريا لهذا الغرض أطلق عليه اسم ابنه، وله موقع على الإنترنت باسم «Shevan Foundation.org».

لا تعرف بلداننا هذا النوع من العلاج، فكثير من القوم يعتبرون الموسيقى حراما وإثما. بيد أن مصلحا محسنا آخر، هو سيمون بوليفار، استعمل الموسيقى في إصلاح الأولاد المشردين وتحويلهم إلى موسيقيين محترفين. عانى الأولاد والشبيبة في جمهورية فنزويلا في أميركا الجنوبية من البطالة والتشرد والحرمان من أبوين. كان الكثير منهم «سقطاء»، فاتجهوا إلى الجريمة وتسويق المخدرات وكل ما يمكن من أنواع الشغب والعبث. كان الفقر طبعا مشكلتهم الكبرى، فوزعت عليهم الآلات الموسيقية، ونظمت لهم دراسة منتظمة للعزف على تلك الآلات وإتقان الموسيقى الكلاسيكية. تطلب الموضوع كثيرا من الصبر والجلادة والوقت ليتحولوا من أولاد شوارع إلى أولاد كونسرت.

كان من الطبيعي أن يرد عزفهم بادئ ذي بدء في شكل ضوضاء لا غير، فسميت موسيقاهم بالضوضاء الكبيرة.

وبمرور الزمن أصبح بالإمكان خلق فرقة موسيقية محترفة منهم عرفت باسم أوركسترا الضوضاء الكبيرة (The Big Noise Orchestra)، وما لبثت حتى هزت النقاد والموسيقيين المحترفين، وراحت تغزو العالم بأعمالها الموسيقية، فكان أن سمعنا منها في هذا العام عينات من بيتهوفن (السيمفونية الثالثة)، وقدمت دليل الموسيقي الصغير للأوركسترا من تأليف الموسيقار البريطاني برتن.. قدمته في اسكوتلندا ولندن.

توجه محسن آخر لإصلاح السجناء بالموسيقى، بعزفها لهم وتعليمهم عزف آلاتها. خصص لهذا الغرض صندوقا خيريا باسم «النغم المتغير»، إشارة للانتقال من عالم الجريمة إلى عالم الفن الرفيع. وأصبح هذا العمل الخيري من أنشطة السجون البريطانية الآن لما أحدثه من أثر في تحويل المجرمين بعيدا عن عالم الإجرام إلى عوالم العيش الرقيق واحترام النظام.

ما أحلاها وأجداها من صدقات تنطلق من الوتر فتؤثر على أوتار الإنسان.