يا ليتني كنت (صملا)

TT

أنا شخصيا تستهويني الوحدة، ولا أتعب ولا أشكو ولا أتذمر ولا أمل من الانفراد بنفسي حتى لو جلست على هذا الحال أياما وأسابيع، ولولا ظروف الحياة التي ألقت تبعاتها ومسؤولياتها على كاهلي مرغما، لامتدت بي الوحدة أعواما وأعواما إلى أن يسترد الله أمانته، معارضا ذلك المثل القائل: (جنة من دون ناس ما تنداس).

والذي دعاني اليوم لهذه (الفضفضة) هو الخبر التالي الذي قرأته عن (فارتسينو بارينتوس)، وهو رجل من تشيلي عمره (81) سنة، قضى منها (46) سنة وهو يعيش حياة عزلة هادئة وحيدا على سفوح جبال منطقة (باتا غونيا) في تشيلي والتي تعد من أكثر المناطق عزلة في العالم وأقلها سكانا.

هناك في تلك البقعة النائية أقام بارينتوس كوخين صغيرين من الخشب؛ واحدا لسكنه، والآخر كمستودع للأطعمة والمؤنة التي يحتاجها.

عن حالته يقول بارينتوس «لا أحتاج للمال كثيرا، ولدي ما يكفي من الطعام والمؤن، وتبدو الحياة أفضل عندما تعيشها وحدك وسأبقى هنا حتى أموت».

وليس لديه غير قطيع صغير من الأبقار والأغنام يقتات منها ويستفيد من بيعها عندما يذهب مرة واحدة إلى المدينة كل سنتين في رحلة تستغرق يومين وهو على ظهر جواده.

ولا يربطه بالعالم وأخباره غير راديو قديم، ولم تقع عينه على التلفزيون غير مرة واحدة، وهو أعزب لم يتزوج طيلة حياته.

ولقد حسدت ذلك الرجل من أعماق قلبي على حياته الرائعة تلك، مثلما حسدت من قبله رجلا آخر له قصة لا بد أن أرويها لكم.

فقبل أكثر من (20) سنة، كنت برفقة مجموعة من (المقانيص) الذين يبحثون عن الصيد في منطقة (النفود) من الجزيرة العربية، وإذا بنا نلمح على البعد شبح رجل مع قطيع من الإبل لا يزيد عددها على العشرة.

كان الرجل هزيلا ورث الثياب، جاهلا بكل ما يدور في العالم، ولا يعرف حتى من هو حاكم البلاد.

اعتقدت لأول وهلة أنه مجنون، غير أن ما صحح معلوماتي هو رجل بدوي من مجموعتنا، وعرفت منه أنه من (الصمول)، وعندما استفسرت منه عن معنى هذه الكلمة، قال لي: إنه بين الحين والآخر يعتزل بعض رجال البادية الحياة الاجتماعية نهائيا، والواحد منهم يطلق عليه اسم (الصمل)، وهو في الغالب لا يتزوج، فليس هناك امرأة تقبل أن تشاركه هذه الحياة العجيبة القاسية.

والغريب أننا حاولنا مساعدته بإعطائه شيئا من النقود أو الزاد، غير أنه رفض كل ذلك بإباء وشمم، فهو أصلا لا يعرف ما هي النقود، وكل حياته يعيش على الحليب وعلى التمر الذي يأتي به بعض أقاربه ويضعونه له كل عدة أشهر في غار منعزل في أحد الجبال، والمرة الوحيدة التي دخل فيها مدينة هي عندما شاهدوا جماله ترد على إحدى الآبار لكي تشرب ولم يكن هو معها، فاقتفوا أثر الجمال حتى وجدوه على بعد خمسين كيلومترا مغمى عليه، فنقلوه وهو فاقد الوعي إلى المستشفى في (عرعر)، وعندما أفاق في اليوم التالي وشاهد الممرضات بزيهن الأبيض اعتقد أنه قد مات وانتقل إلى الجنة، وغافلهم بالليل وقفز من الدور الثاني وهرب واختفى من الجميع، مفضلا صحراءه ووحدته عن الجنة وحورها العين التي توهمها.

[email protected]