أصدقاء السلطان!

TT

«حريم السلطان» أحد أكثر المسلسلات التركية متابعة في الشارع العربي، وعنوانه «الذكوري جدا» يخص النسخة العربية، بالتركية «القرن العظيم»، وهي مفارقة لا تبدو شكلية قدر أنها تعكس رؤية الأتراك لذواتهم في المرحلة الجديدة الاستعادية للتاريخ، بينما لا يتجاوز التلقي العربي سوى زفرات مكلومة يطلقها الرجال على حال سليمان القانوني الغارق بين الحسناوات، والمفارقة أن هذا الإعجاب يطال حتى جمهورا عريضا من النساء اللواتي يرين في بذخ السلطان وقصره خيارا مقبولا للعيش ولو كدور وصيفة أو أميرة مؤجلة، وهي قصّة تستحق الوقوف عندها طويلا كيف أننا ما زلنا نقبع حتى في تاريخ متجاوز، بينما يحاول صانعوه توثيقه تاريخيا إيمانا منهم بأنه غير قابل للتكرار أو لا ينبغي له أن يعود، وبالمناسبة فإن «حريم السلطان» تلقى ردود فعل عنيفة من قبل إسلاميي تركيا تجسدت في أكثر من ثمانين ألف قضية رفعت ضده، كما اتهم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان المسلسل بمحاولة عرض الجانب السلبي لتاريخ تركيا وتزييف ذلك لدى الشباب.

«أصدقاء السلطان» هو مسلسل واقعي سياسي تقوم به تركيا الآن في دور متعاظم استغل هشاشة الحالة العربية بعد ربيعها الذي خلف كل هذه الفوضى وعدم الاستقرار، ومن شاهد المؤتمر الرابع لحزب العدالة والتنمية الذي كان «سلطانه» رجب أردوغان حيث قام بخلع سترته وفك أزار كمّ قميصه «المضاد للرصاص» على طريقة أوباما مستعرضا المدن الإسلامية على امتداداتها الجغرافية ولم ينس حتى سراييفو ومقدونيا والقاهرة وبغداد باقتباساته الشعرية، ولم تنته الحكاية حتى تأتي كلمة خالد مشعل الذي بلغ بالمشهد ذروته الدرامية حين وصف أردوغان بزعيم الأمة الإسلامية.

قرابة الثلاث ساعات وأردوغان يستعرض التاريخ التركي/ العثماني أمام ضيوفه وأغلبهم من «أصدقاء السلطان» من قيادات الإخوان المسلمين ورموزهم سواء الذين وصلوا إلى سدة الحكم ببعض «الربيع العربي» كمحمد مرسي وراشد الغنوشي أو الذين ما زالوا عالقين في التجاذبات السياسية كخالد مشعل.

وعلى الرغم من غياب المعارضة التركية الذي يبدو متفهما في احتفالية كهذه تخللها الكثير من المقطوعات التركية الغنائية التي تغني على ليل «السلطان» المنقضي وخلافته، فإن غياب أي رموز سياسية سنية أو حتى شيعية كبيرة يوحي بأن المؤتمر لـ«أصدقاء السلطان»، وبالفعل كان غياب الواقع والحاضر سيد المشهد، حيث تركزت كلمة أردوغان على اتهام العلمانيين في تركيا بتدمير الإسلام وانتهاك مقدساته، لكن اللافت أن «سوريا» لم تحضر بقوة في المؤتمر، حيث أكد أردوغان أنه سيواصل دعم المعارضة واستقبال اللاجئين.

اللافت في الأمر أن أردوغان حين تعرّض للشأن الفلسطيني قال إن كسر الحصار على غزة مهمة الرئيس محمد مرسي التي يتمنى أن تتكلل بالنجاح منتقدا عدم اعتذار إسرائيل دون أن ينسى نقد الغرب والفوبيا من الإسلام.

من يتابع مؤتمر «أصدقاء السلطان» لا ينتابه شك أن مؤتمر «العدالة والتنمية» أشبه باجتماع إقليمي لجماعة الإخوان المسلمين، كما أن كلمات أردوغان الواضحة كانت أشبه باستمالة الرموز الجديدة بعد لحظة فتور مرت إبان زيارة أردوغان للقاهرة ومطالبته بالتصالح مع العلمانية.

والحال أن استعراضا كهذا للأصدقاء والحلفاء له دلالاته السياسية، فهو أضفى على مؤتمر حزبي بعدا إقليميا وأرسل إشارات واضحة إلى دول المنطقة بالجيوسياسية الجديدة التي يمكن أن تلعبها تركيا، لكن ذلك كله حتى الآن لا يؤكد أن تركيا فازت بالربيع العربي قدر أنها تريد توظيفه جيدا باتجاه حلف إقليمي سني إخواني.

المؤكد أن شعبية الرئيس التركي أردوغان عربيا لم تقتصر على الإسلاميين وحدهم فخطابه الشهير في دافوس كان شرارة البدء وتعاظمت حتى موقفه القوي مع أسطول الحرية وبين الواقعتين كانت تركيا الأردوغانية تحضر كنموذج إسلامي للدولة المدنية لكن الأمر اختلف تماما بعد الربيع العربي لأسباب كثيرة أهمها اختلاف التجربتين والشرعية التي قامت عليها حزب العدالة والتنمية التركي، والوجه الجديد للإخوان في دول الربيع العربي.

شرعية الحزب التركي طبخت على مهل ومن خلال صراع على الواقع ليس عبر احتجاجات وإنما من خلال عمل حزبي منظم وطويل النفس استهدف على مدى سنوات طويلة «الطبقة الوسطى» بتفرعاتها تكنوقراطا، ومصرفيين، ومثقفين وحتى رجال أعمال في بداية طريقهم وكل هذه الفئات كانت تعاني من تسلط العسكر، بينما شرعية الإخوان في زمن الربيع قامت على فكرة إسقاط النظام بالتحالف مع شباب الثورة سياسيا وابتلاعهم اجتماعيا من خلال مزاحمتهم بالتيارات الأكثر تأثيرا على الواقع وعلى رأسها «التيار السلفي» وتنوعاته المختلفة الجماعة الإسلامية والجهاد والسلفية العلمية.. إلخ، فهؤلاء هم حلفاء الإخوان الحقيقيون الذين ضمنوا لهم السلطة على الأرض، بينما نأى عنهم المثقفون والتكنوقراط والأقليات الأخرى كالأقباط وأنصار الدولة المدنية.

استلهام التجربة التركية ما بعد الربيع كان معياريا تماما، فالاعتماد هو على جاذبية أردوغان وقوته في السياسة الخارجية، بينما يهمس الإخوان لحلفائهم سرا وجهرا بأن التجربة التركية بما قدمته من تنازلات جذرية على مستوى فهم العلمانية والتعامل معها إنما هو خصوصية تركية لا تلائم المجتمعات العربية، لكن براغماتية مثل هذه في التعامل مع النموذج التركي ستعطي آثارا سلبية على المدى البعيد بسبب أن الخطاب السلفي بالكاد ابتلع لعبة الديمقراطية التي كان متأكدا قبل خوضها من أنه سيربحها، لكنه لا يمكن أن يتأقلم مع هذا الانصهار في النموذج التركي الحالي.

في الضفة الأخرى فإن «تركيا» الخلافة برمزيتها التي يضخها أردوغان ببذخ في الفترة الماضية منذ بدايات الربيع العربي ستفقد سمعتها الجيدة لدى خصوم الإخوان، كما أنها ستعيد التجاذبات القومية على الرغم من وضعية الخطاب القومي بالغة الهشاشة، كما أن مشكلة الأكراد والأداء التركي السيئ في ملف الأقليات سيطلق الكثير من الأسئلة على جدوى نموذج كتركيا في التعامل مع الأقليات والإثنيات العرقية.

بالطبع إذا تحدثنا بمنطق السياسة بما تحمله من براغماتية عملية؛ فإن تعاظم الدور التركي كدولة سنية لها حلفاؤها الجدد؛ سيشكل تهديدا كبيرا لإيران لا سيما مع تغير المعادلة في سوريا، لكن ذلك له أكلاف وتبعات سياسية كبيرة أقلها ضمانات تقدمها تركيا للغرب وللدول المجاورة في عقلنة «دول الربيع العربي» على مستوى السياسة الخارجية، وعلى قدرتها في التعامل مع تحديات الداخل ليس على مستوى الاقتصاد؛ بل حتى على مستوى السلم الاجتماعي وتدعيم حالة الاستقرار، وهو دور لا تقدم تركيا فيه إلى الآن شيئا مذكورا.