سحقا للنخبة!

TT

هذه الأيام، رحل عن عالمنا رجل فكر وتاريخ من طراز رفيع، رحل المؤرخ البريطاني المخضرم إريك هوبسباوم، وهو صاحب سلسلة أعمال تؤرخ للتطور الفكري والسياسي والاجتماعي عبر القرون، وكان آخر أعماله كتاب باسم «عصر التطرفات»، وخصصه للقرن العشرين.

بلغ الرجل من العمر مرحلة متقدمة، حيث توفي عن عمر ناهز الـ90 عاما، أمضاها باحثا ومنقبا في تقلبات المجتمعات البشرية، ومؤرخا لتطور الأفكار الكبرى.

رحل في لحظة بالغة الدلالة في مدى التعقيد الذي وصلت إليه الأفكار السياسية والفكرية الكبرى.

تحدث في كتابه المشار إليه قبل قليل، واصفا أثر الانفجار في التواصل المعلوماتي وسرعة نقل الخبر بين الناس، مشيرا إلى أن تدفق المعلومات الذي شهده هذا القرن، يقصد القرن العشرين، لم يتح للأباطرة السابقين وحكوماتهم، ولو بشكل قريب، الأمر الذي جعل الحاجة ماسة إلى التحليل والفهم أكثر منها لمجرد معرفة الأخبار والمعلومات وسهولة نقلها، كما نقل الأستاذ إبراهيم العريس في زاويته الجميلة بجريدة «الحياة»، (ألف وجه لألف عام).

والحق أن هذه ملاحظة نافذة من «حكيم» من قلة ممن بقوا في هذه العصور المشوشة والصاخبة.

قال هذا قبل أن يشهد الطفرة الكبرى التي شهدها مجال المعلومات وآليات نقلها وسهولة التواصل البشري، من خلال وسائط الاتصال السريعة ونموذجها المثالي موقع «تويتر»، حيث الكل يتحدث والكل ينظر، والكل يتخذ موقفا، والكل ينقل خبرا، والكل يرد على الكل، في حفلة صخب تصم الآذان وتغشي الأبصار، لكن في مقابل فقر شديد في الفهم والتحليل والإدراك.

المعلومة أداة، يمكن أن تفيد ويمكن أن تضر، حسب الشخص الذي يستخدمها، ويوظفها، ويعتصر رحيقها، تماما مثل السكين يمكن أن تقطع بها تفاحة بشكل جميل ولذيذ، ويمكن أن تجرح بها أو تقتل.

مضر هذا التمجيد الفارغ لحرية تداول المعلومات، والقصائد الوردية بموقع «تويتر»، وإنه انتهى زمن النخبة، وتساوت الرؤوس.. إلخ، هذا الكلام ضار جدا بمسيرة الفهم والفكر. إذ إن المعنى المباشر لهذا الكلام الذي يروج له للأسف، أشخاص ينسبون لعالم الثقافة والصحافة، هو ضرب البحث والفهم في مقتل، لأن البحث الجاد والفهم الهادئ هو في النهاية جهد نخبوي وليس شعبويا. فهل من يمجد هذه الخفة والسطحية بحجة أننا نعيش عصر الحرية والجماهير يريد نعي التأني والبحث الذي هو شرط وجود أفكار ثقيلة وحقيقية؟

لو كان أبو حيان التوحيدي أو الجاحظ أو ابن خلدون، أو ويل ديورانت أو إريك هوبسباوم أو توينبي، أحياء معنا ولهم حسابات في «تويتر» هل سيصبح من حق هذه الحشود الهائلة على عرصات «تويتر» أن تطالبهم بالمساواة الفكرية وحق منازعتهم النقاش والحديث بحجة نهاية عصر النخبة؟!

عاشت التفاهة وليرقد هوبسباوم بسلام!

[email protected]