تمويل شركات الأدوية للدراسات الطبية

TT

أثارت دراسة جديدة للباحثين من جامعة هارفارد موضوع مدى ثقة الأطباء في نتائج الدراسات الطبية التي تمولها شركات الأدوية. ووفق ما تم نشره في عدد 20 سبتمبر (أيلول) من «مجلة نيوإنغلاند الطبية» New England Journal of Medicine فإن ثقة الأطباء تتدنى بشكل متواصل في نتائج الدراسات الطبية إذا ما علموا أن إحدى شركات الأدوية قامت برعاية وتمويل إجرائها، وأن هذه القناعة تزداد لدى الأطباء حتى لو كانت تلك الدراسات الطبية من النوعية الرفيعة المستوى top - notch and high quality.

وأفاد الدكتور أرون كيسلهيم، الباحث الرئيس في الدراسة وطبيب الباطنية بكلية الطب بجامعة هارفارد، بأن هذه مشكلة، لأن تحديد «مواطن ومصادر التحيز» من الأمور المهمة للأطباء وغيرهم من العاملين في الأوساط الطبية والمهتمين بتوفير وتطوير خدمات الرعاية الصحية، وأن نشوء وتراكم هذه النوعيات من الشكوك لدى الأطباء يمكن أن يقلل من تقبلهم لبعض من المعلومات الجديدة ذات القيمة البالغة في النهوض بنوعية ونتائج الرعاية الطبية المقدمة إلى المرضى. وهو ما عقب عليه الدكتور جيفري درازن، رئيس تحرير المجلة وأستاذ الطب الباطني في هارفارد، في مقالته التعليقية على الدراسة بالقول: «إن تقييم صحة ودقة ومصداقية أي دراسة طبية أو ورقة بحثية يجب أن تُبنى بشكل حصري على نوعية تصميم وإجراء وتحليل نتائج البحث وليس على الجهة الممولة لإجراء البحث، وإن المبدأ المهم في هذا الشأن أن الصرامة في تطبيق معايير جودة البحث تزيل الشكوك حول التحيز في دلالات النتائج».

وكان الدكتور درازن قد بدأ مقاله التعليقي بالقول: «قد يظن البعض أن ترجمة نتائج الدراسات الطبية تعتمد بشكل حصري على أهمية موضوع الدراسة الطبية ونوعية معايير جودة إجرائها، ولكن هذا ليس صحيحا في الواقع»، وذلك تلميحا منه إلى الشكوك المتنامية لدى الأطباء في مصداقية نتائج الدراسات التي تمولها شركات الأدوية، ومدى جدوى تطبيقها في معالجة المرضى.

والواقع أن هذه إحدى المعضلات، ذلك أن شركات الأدوية معنية بشكل رئيسي بإجراء الدراسات الطبية التي تختبر أو تثبت جدوى منتجاتها الدوائية في معالجة المرضى. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن لم تقم شركات الأدوية بتمويل المصادر المالية لإجراء تلك الدراسات فإنه قلما يكلف أحد نفسه تمويل القيام بتلك الدراسات المكلفة ماديا لاختبار منتجات دوائية لشركة ما. ومن جهة ثالثة، هناك أدلة ثابتة على تورط بعض شركات الأدوية في فبركة نتائج الدراسات الطبية بما يخدم تسويقها كمنتجات علاجية ثابتة الفائدة، وهو ما عبر الدكتور درازن بالقول صراحة: «كان هناك عدد من الأمثلة الصارخة على السلوك السيئ في الماضي، الذي نشر على نطاق واسع في الصحافة»، وهو ما أدى إلى نشوء افتراض تلقائي مفاده أن تمويل الشركات الدوائية لإجراء الدراسات الطبية يؤدي إلى تحيز واضح في نتائج الدراسات تلك لصالح منتجات دوائية معينة». وأضاف: «وهكذا أصبح الناس يعتقدون على الفور أنه إذا كان الأمر له علاقة بشركة الأدوية، فإن ثمة شيئا ما خفيا في النتائج».

وعليه، فإن الباحثين حينما نظروا في المشكلة تساءلوا: «لقد سألنا أنفسنا: ما الوضع الصحيح؟ وأجبنا أن الجيد هو أن يبني الطبيب تقييمه لنتائج الدراسة الطبية على مدى جودة معايير إجرائها بحسب القوة أو الضعف». ولكننا أيضا تساءلنا: «هل يغير الطبيب تقييمه هذا بناء على معرفة وجود تمويل للدراسة من قبل شركة أدوية؟».

وبالفعل، قام الباحثون بكتابة ملخص لـ27 دراسة مفترضة حول جدوى أدوية تعالج السكري واضطرابات الكولسترول وأمراض شرايين القلب. وقاموا أيضا بوضع مصادر متعددة للتمويل المادي، منها جهات طبية حكومية بالولايات المتحدة ومنها شركات أدوية، ومنها دون أي تمويل مادي من قبل جهات خارجية. وطلبوا من نحو 500 طبيب مراجعة ملخصات تلك الدراسات الـ27، وطلبوا من الأطباء إفادتهم ما إذا كانوا سيستخدمون تلك الأدوية في معالجة مرضاهم بناء على نتائج الدراسات تلك. وتبين للباحثين أن ثقة الأطباء في الدراسات التي دعمت تمويلها شركات الأدوية هي ثقة متدنية مقارنة بغيرها من مصادر التمويل المادي، وبالتالي فإن حماس الأطباء لتطبيق استخدامها في المعالجة كان أقل. وتحديدا، ثقة الأطباء في الأدوية التي دعمت دراستها المؤسسة القومية للصحة بالولايات المتحدةNIH - sponsored trials هو ضعف ثقتهم في تلك التي دعمتها شركات الأدوية industry - funded trials.

وصحيح أن المشكلة بالدرجة الأولى لدى الأطباء، وقد يعاني منها المرضى في عدم استفادتهم من نتائج طبية قد تكون رائعة، ولكن مصدر نشوء المشكلة ليس الأطباء بل تجاربهم السابقة مع الدراسات الطبية التي تمولها شركات الأدوية. ولذا فإن الحل في أحد أشكاله يكون في وضع ضوابط دقيقة وصارمة، كما قال الدكتور درازن، لإجراء الدراسات الطبية يلتزم بها الباحثون الطبيون كي لا يقعوا في مغريات شركات الأدوية لـ«صناعة» نتائج ترضي تلك الشركات. أو بعبارة أخرى، لا يكون عمل الباحثين الطبيين تطبيقا للمثل القائل: «اربط الحمار مَطْرح ما يعوز صاحبه».

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]