السعوديات.. سوق العمل والعمل في السوق

TT

تجولت في سوق شعبية في مدينة الرياض في عصر يوم رمضاني مشمس وصلت درجة الحرارة فيه إلى 46 درجة مئوية. السوق مفتوحة، والبائعات يفترشن بضائعهن ككل يوم. هذه التجمعات النسائية في الأسواق الشعبية ليست منظرا جديدا، فذاكرة الرياض تعرفهن منذ أكثر من 50 عاما في أسواقها القديمة ؛«سويقة» و«المقيبرة» و«أشيقر» وغيرها. لا يزال المشهد قائما، تغيرت الرياض طولا وعرضا وتغيرنا نحن ولم يتغير حال هؤلاء.

«أم محمد».. سيدة ستينية، سألتها بعد السلام منذ متى وهي تبيع بضاعتها في سوق مفتوحة؟ سردت لي تاريخها المهني على هذا البساط، منذ كانت الحكومة السعودية تقضي فصل الصيف في الطائف. استنتجت أنها تعني عهد الملك خالد رحمه الله. سألتها إن كانت هذه المهنة توفر لها دخلا مرضيا، فأكدت أن عملها هذا أدخل عليها ما يسترها أمام الناس وأتاح لها تدريس أولادها، ولكنها اليوم اعتادت هذا العمل، تقول إن أولادها لم يعودوا بحاجة إلى عملها، ولكنها لن تمد إليهم يدها طالما أنها تطيق العمل، كما أنها تجد فيه متنفسا لها مع صويحباتها في المهنة.

سألتها إن كانت تفضل محلا تجاريا صغيرا يقيها الصيف اللاهب والشتاء القارس والغبار الكاتم وفضول المارة؟ فضحكت السيدة الكريمة وقالت: بالتأكيد، أنا وجاراتي، ولكن ليس من جيوبنا.

عقود طويلة من الزمن والمرأة السعودية تنشر بضاعتها على الرصيف أمام الناس، تبيع وتجادل بكامل حريتها، ومقابل عينيها محل تجاري يبيع فيه عامل أجنبي يستمتع بالتكييف والإضاءة والهدوء. إن أحدا لم يستنكر كيف للأم أو الأخت أو الزوجة أن تعمل في هذه الطقوس المناخية القاسية، في أجواء غير صحية، بلا حماية ولا نظام. تمر الأعين عليهن كما تمر السنين، لم يلحظهن أحد.

ولكن المفارقة أن أصوات الاحتجاجات كانت عالية عندما سمحت الدولة بعمل السعوديات في محلات السوبر ماركت، حيث تتوفر الأنظمة، والتراخيص التجارية التي تفرض المسؤولية.

مثلما كانت قصة السعوديات مع التعليم، نراها اليوم تتكرر بحذافيرها مع العمل؛ احتجاجات يثبت لاحقا أنها عوائق من سراب، ومعارك جدلية تسرق منا الزمن وتنتهي بلا منتصر.

لن يبلغ المحتجين على عمل المرأة ما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه من غيرة على الدين والمحافظة عليه شكلا ومضمونا حين استعان بالشفاء بنت عبد الله لولاية السوق، تراقب وتحاسب وتقدم له التقارير. عمر بن الخطاب قدم حسن الظن، وعمل بالقاعدة الشرعية التي تقول: «إن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد ما يزيلها».

عمل المرأة في البيع والشراء في الأسواق، أو طبيبة وممرضة في المستشفيات، أو في باحات الحرمين الشريفين في التنظيم والإرشاد، كلها أعمال تنظمها اللوائح والقوانين التي تجرم التحرش، وتلزم المرأة بسلوك أخلاقي يتماشى مع تعاليم الإسلام، والإخلال بذلك عليه ما على أي فعل مخالف من تطبيق لعقوبات رادعة. على هذا الميزان يفترض أن توزن الأمور المتعلقة بعمل المرأة.

نسبة البطالة في المملكة بلغت 10 في المائة، نحو 85 في المائة من العاطلين من النساء، أي أننا أمام شريحة شبابية معطلة، وهي في أقصى طاقتها واستعدادها للعمل، وتعطيل هذه الطاقة له تبعات اقتصادية واجتماعية وأخلاقية قد نتصور منها بعضه ولا نتخيل الآخر.

من الناحية الاجتماعية فكما أن المرأة شريكة في تنمية المجتمع بمفهومه الواسع، فهي شريك رئيسي لزوجها في بناء الأسرة، والحياة اليوم لم تعد كما كانت بالأمس، فالتعليم النوعي مكلف، والإنفاق على الصحة والسكن والمعيشة مكلف أيضا، والحياة الكريمة تتطلب عونا من الشريكين، ودور الزوجة دور حيوي نراه في أحوال الأسر السعودية التي يتقاسم فيها الزوجان تكاليف الحياة.

أما من الناحية الأخلاقية، فإن العوز وضيق اليد أحد أهم أسباب الانزلاقات الأخلاقية والاستغلال والتضحية بالشرف، وفي أقل الأحوال امتهان للكرامة الإنسانية التي تتمرغ في تراب سؤال الناس.

كحل مؤقت، أقدمت السعودية على عمل برنامج أسمته «حافز» يصرف شهريا للعاطلين والعاطلات مبلغا رمزيا (نحو 530 دولارا) لمساعدتهم في مواجهة التضخم والغلاء حتى تتسنى لهم الوظيفة. من فوائد البرنامج أنه كشف أن نسبة العاطلات عن العمل 6 أضعاف العاطلين من الذكور، ونسبة البطالة في كل فئة تعليمية، وفي التخصصات المختلفة، أي أنه وفر قاعدة بيانات تفصيلية أضاءت لنا زوايا مظلمة من واقع سوق العمل. مع ذلك، فإن الأوان حان للتفكير في بديل أكثر فاعلية من هذا البرنامج، كإنشاء هيئة أو مؤسسة تمنح رؤوس أموال لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتقدم معها الاستشارة الاقتصادية من مختصين في مجالات المشاريع المختارة، وهذه إحدى السياسات المقترحة في خطة التنمية الحالية. ربط هذا البرنامج بصندوق الموارد البشرية سيجعل المليارات التي تصرف في برنامج «حافز» أكثر إيجابية إن أصبحت على شكل منح تقدم لأصحاب الأفكار الاستثمارية.

هذا هو الحافز الحقيقي، لأنه يحض على التفكير والعمل والكسب من عرق الجبين، وليس انتظار منحة أول الشهر، كغنيمة باردة. . وللحديث بقية.

[email protected]