اليوم خمر وغدا أمر

TT

وجدت أن الناس أصناف، فمنهم المسالم ومنهم المشاكس، ومنهم الفرِح ومنهم الحزين، ومنهم المتفائل ومنهم المتشائم، ومنهم ومنهم إلى ما شاء الله.. ولو أنني استرسلت لتعداد تناقضات أصناف الناس لما كفتني هذه الصفحة.

غير أن ما يهمني في هذا الموضوع هو تصادمي مع رجل وهبه الله الكثير من المزايا التي أحسده أنا عليها، لكنه مع ذلك هو دائم الحزن والتشاؤم والتبرم والشكوى، وبقدر ما أرغم أنا نفسي على الفرح والأمل إرغاما، بل إنني أفتعلهما إذا لم أجدهما، بقدر ما يجري اليأس في عروق ذلك الإنسان مجرى الدم.

والمعضلة أنه رجل كبير لا تنفع معه النصيحة، كما أنه نال من العلم حصيلة تجعلك تغرق معه لو أنك جادلته. وأكثر ما يزعجني أنني لا أستطيع تجنبه بحكم علاقة عمل تربطني به بين الحين والآخر، لهذا لا مفر لي من مواجهته والاستماع إلى شكاواه التي لا تنقطع، إلى درجة أنني بدأت أشك أن أمه وهي حامل به في رحمها قد توحمت إما على غراب، أو أضعف الإيمان على بومة. ودائما قبل أن أواجهه بيوم أقرأ (المعوذات) وأكون في قمة تعاستي، وتظل هذه التعاسة تلازمني طوال لقائه وتمتد معي بعد ذلك إلى اليوم الثاني من فراقه. ولا أستعيد لياقتي (المزاجية) السعيدة إلا في اليوم الثالث بعد أن أتأكد أنه بعيد عني جدا.

وقبل أسبوع تقريبا التقيت به ويدي على قلبي خوفا من أن يفتح لي خزائن مصائبه، وحصل ما توقعت، وذلك عندما أخذ يكيل الشتائم للدنيا من دون مقدمات ولا مبررات. حاولت أن أدافع عن الدنيا لأنني بالفعل أحبها وأغار عليها لكن دون جدوى، وعندما وجدته يسترسل في وصفها، واختصارا للوقت، رجوته أن يكتب انطباعاته عنها، وبعد أن أخذتها منه ها أنا ذا أنشرها أمامكم لأثبت لكم بالدليل القاطع أن هناك أناسا غير جديرين بالحياة.

ومن حكمه وأوصافه التي كتبها عن الدنيا، وإنني على يقين من أنه سبق له أن قرأها وحفظها عن ظهر قلب، أن: «الدنيا إذا أقبلت: بلت (من البلاء والابتلاء)، أو أركبت: كبت (بمعنى صرعت أو أهلكت)، أو أبهجت: هجت (بمعنى الهجاء)، أو أسعفت: عفت (أي لوت أو كسرت)، أو أينعت: نعت (من العزاء)، أو أكرمت: رمت (أي ألقت وأطاحت)، أو عاونت: ونت (أي أضعفت ثم تركت المرء)، أو سامحت: محت (من التجني والظلم)، أو صالحت: لحت (من الملاحاة)، أو واصلت: صلت (أي جعلته يركض وأتعبته)، أو وفرت: فرت (أي فرت من تابعها)، أو ولهت: لهت (من اللهو والإغواء)، أو بسطت: سطت (من السطو والاستيلاء)، أو أزهرت: هرت (من تهرؤ الشيء وسقوطه)، أو آنست: نست (بمعنى النسيان لمحبها)، أو عاملت: ملت (أي ملت من الإنسان ومل الإنسان منها)».

إنني من اليوم أفكر بقلق في اللقاء القادم معه بعد ثلاثة أشهر من الآن - الله يعين. ولكن مثلما قال (امرؤ القيس): «اليوم خمر وغدا أمر».

[email protected]