ما بين (الجاتوه) وخبزة الرماد

TT

في صيف أحد الأعوام، وكان الوقت في أواخر شهر أغسطس (آب) في مدينة (جنيف) بسويسرا، وبينما كنت أعبر الشارع المحاذي للبحيرة تواجهت مع شخص أعرفه، وتسالمنا وتكلمنا ونحن نسير على الرصيف، وكان الطقس بديعا، والناس من مختلف الفئات والأعمار في حبور وانشراح، وكلهم يحاولون أن يأخذوا أماكنهم على الجانبين انتظارا لانطلاق (الكرنفال) السنوي المعتاد. وأشار عليّ ذلك الشخص أن أصعد معه إلى الفندق القريب ذي الخمس نجوم ليعرفني على رجل أعمال مرموق، وفعلا صعدنا إلى الطابق الثاني، ووجدناه جالسا مع أفراد عائلته وبعض أصدقائه في (التراس) المطل مباشرة على الشارع لمشاهدة الاستعراض، وأتى الغرسون ليأخذ طلبات الجميع.

ولفت نظري ابنه الذي لا يزيد عمره على 11 سنة، الذي طلب نوعا من (الجاتوه) الباهظ الثمن، وعندما جاء الطلب أخذ منه نتفة واحدة بالملعقة واشمأز ولم يعجبه وأزاحه على جنب، وطلب من الغرسون نوعا آخر، وتكرر نفس الفعل والاشمئزاز، ولم يدخل مزاجه غير الطلب الثالث، كل هذا كان يجري ووالده يضحك معجبا بالمزاج الرائع لابنه، وزاد عن ضحكه بأن قال: «إن ولدي هذا ما شاء الله، يعرف كيف يختار، حتى لو أدى به الأمر إلى تغيير مائة طلب مهما غلا ثمنها».

فقلت في سري: (سبحان مغير الأحوال). وعدت بالذاكرة إلى الرحالة الإنجليزي (بلغريف)، عندما كان مع رفاقه البدو في وادي السرحان شمال الجزيرة العربية سنة 1862، ووصف غداء لهم وقال: «أحضرنا بضع حفنات من الدقيق، عجنها أحد البدو بيديه غير المغسولتين أو بقطعة من الجلد المتسخ، وصب عليها شيئا من الماء الآسن الذي في حوزتنا، ثم قام بعد ذلك بتسوية العجين على شكل كعكة كبيرة مستديرة، يصل سمكها إلى نحو بوصة واتساعها لنحو خمس أو ست بوصات، وفي الوقت ذاته، قام بدوي آخر بإشعال النار في شيء من الحشائش الجافة، وجذور الحنظل، وروث الإبل الجاف، إلى أن صنع من ذلك جمرا متوهجا، ثم ألقى بالكعكة بين هذه الجمرات وغطاها بعد ذلك مباشرة بالرماد الحار والرمل، وتركها بضع دقائق، ليخرجها بعدها ويقلبها على الوجه الآخر، ثم يغطيها بالرماد الحار والرمل مرة ثانية، إلى أن أصبح في النهاية ثلث منها محروقا، وثلث شبه مخبوز، والثلث الأخير مجرد عجينة، ثم أخرجها بعد ذلك لتقسم على المجموعة الجائعة، لتأكلها وهي حارة تماما قبل أن تبرد وتتحول إلى مادة جلدية تستعصي على الوصف، تتحدى أشد الشهايا انفتاحا، ولم يكن يصاحب هذه الكعكة سوى جرعة من الماء الآسن». انتهى..

ولا أستبعد أن أحد أجداد ذلك الطفل كان من ضمن المرافقين (لبلغريف)، لأن أصول والده ترجع إلى قبيلة كانت تستوطن وادي السرحان، وهذا ليس عيبا، كما أنني أيضا لا أستبعد إطلاقا أن بعض أجدادي قد أكلوا من خبزة الرماد.

لو كان ذلك الطفل هو ابني لقرأت عليه ما كتبه الرحالة الإنجليزي قائلا له: هكذا كان أجدادك يعيشون، لا أطلب منك أن تأكل مثلما كانوا يأكلون، فزمانك أصبح غير زمانهم، ولكن عليك أن تحمد ربك، وتعرف قيمة النعمة.

[email protected]