فتح والحل الجراحي

TT

بشرت قيادة فتح جمهورها بأنها ماضية قدما في فصل الكوادر والقيادات غير المنضبطة لقرارات الحركة في أمر الانتخابات المحلية. فبعد قبول استقالات عدد منهم، وفصل عدد آخر، وبعد اعتماد الرئيس محمود عباس لقرارات الفصل بوصفه القائد العام للحركة، بات مؤكدا فصل العشرات ممن شكلوا قوائم مستقلة عن قوائم فتح، أو شاركوا في قوائم شكلتها قوى وفصائل سياسية وشخصيات مستقلة، وإذا ما وضع تحذير صادر عن قيادة فتح من أن كل من يدعم قائمة غير قائمة فتح سيتعرض لعقوبة الفصل، فذلك يعني تعرض الآلاف لمثل هذه العقوبة.

ستظهر نتائج الاختبار الحقيقي والنهائي لهذه الإجراءات الجراحية غير المسبوقة في فتح، والتي دخلت حسب التقويم الرسمي عقدها السادس، في اليوم التالي لانتخابات المجالس المحلية، فإذا حققت فتح انتصارا لافتا، خصوصا في المدن الكبرى مثل نابلس والخليل، فذلك يعني أن الإجراء الجراحي قد أزال ورما مزمنا من جسد فتح، وهو اللاانضباط.. أما إذا لم يحدث ذلك وأظهرت النتائج تراجعا ملحوظا، فذلك يعني أن أزمة فتح قد تفاقمت، وأنها وصلت في أمر خروجها من المأزق إلى حائط مسدود، يحتاج إلى نوع آخر من المعالجة غير القرارات الفوقية والإجراءات الجراحية.

إجراءات الفصل أثارت جدلا قويا داخل الحركة، وأضيف إلى المواضيع الإشكالية الكثيرة التي يتجادل ناس فتح حولها.. موضوع آخر أكثر حدة ومدعاة للانقسام.

فمن يستطيع فرض إجراءات انضباطية على حركة شعبية واسعة لا يجمعها غير الاسم وتاريخ الأعضاء، وفيما مضى كان يجمعها زخم عرفات وقدراته الاستثنائية على قيادة الفوضى ومنعها من تدمير الحركة وإنهائها.

مؤيدو الفصل هم بمعظمهم أعضاء في الإطارات الرسمية للحركة، وهي اللجنة المركزية والمجلس الثوري ولجان المناطق التي تحب فتح تسميتها بالأقاليم. أما المتحفظون أو المعارضون فهم من لا مكان لهم في الإطارات الرسمية، وبوسعنا القول إنهم بعد المؤتمر السادس الذي انعقد قبل ثلاث سنوات أصبحوا أغلبية عددية وربما نوعية.

فيما مضى كانت فتح تستبعد بصورة مطلقة فكرة فصل غير المنضبطين، إذ كانت تتعاطى مع واقعها بصورة عملية حتى قيل لو فصل كل واحد غير منضبط في فتح لما بقي فيها أحد.

ومما يفاقم أزمة الفصل أو العلاج الجراحي هو انعدام المقاييس والضوابط المركزية الموحدة التي يجري على أساسها تقويم سلوك الأعضاء والكوادر والقادة. وانعدام المقاييس الموحدة يؤدي تلقائيا إلى تعميق حالة عدم الانضباط، فمن يقرر من انضبط أو لم ينضبط؟ ثم ما الجهة التي تملك حق فصل كادر أو قائد أو عضو عن تاريخه أو تراثه الذي يمتد غالبا إلى عشرات السنين؟ هل هي اللجنة المركزية التي يحقق أعضاؤها أرقاما قياسية في قلة؟ أم المؤتمر الذي كي ينعقد لهذه الغاية أو لغيرها فقد يحتاج الأمر سنوات طويلة؟

لقد انتقلت فتح في صراعها الداخلي المرير والمتصاعد من مرحلة صعبة إلى مرحلة أصعب. وحين يتم اللجوء إلى إجراءات جراحية كالفصل الجماعي، فساعتئذ يمكن القول إن ضوءا أحمر قد أضيء أمام مستقبل الحركة وقوتها البشرية العددية والنوعية، في زمن يعاني فيه المشروع الوطني الذي أسسته فتح وقادت فصوله الأهم منذ البدايات.. وفي زمن صار الحشد العددي مقررا في أمر النفوذ والقيادة من خلال صناديق الاقتراع.

النار تأكل بعضها

إن لم تجد ما تأكله

هذه النظرية هي التي اعتمدها خصوم فتح الأقوياء الذين يسمون بالإسلام السياسي، في إضعاف الحركة وتصدير ضعفها للعالم كدليل ملموس على تراجع نفوذها الشعبي في عقر دارها.

فهؤلاء الخصوم سيقررون ربما في الساعات الأخيرة خطوة الانقضاض الأخير في الانتخابات المحلية، فإما أن يوعزوا لمنتسبيهم بالتصويت لأي قائمة لا تحمل شعار فتح الرسمية، وإما أن يفشلوا الانتخابات بالمقاطعة المطلقة التي تجعل من نسبة المقترعين المتدنية دليلا على ضعف شعبية فتح وحلفائها والمستقلين. وأي خطوة يتخذها الإسلام السياسي لا بد أن تكون مؤثرة سلبا على وضع فتح وحلفائها.

في كل الحالات فإن إجراءات الفصل لو تواصلت فهي بالمحصلة الرقمية الملموسة لن توفر أصواتا إضافية لفتح، بل ستأكل من أصواتها الكثير فوق ما ستأكل الكتل الأخرى والمقاطعون.. والسلبيون الذين يتنامى عددهم بصورة كبيرة في المجتمع الفلسطيني المنهك من كثرة الأزمات التي لا تحل.