ألا قاتل الله الانفعالات

TT

بينما كنت (أبحبش) وأقلب أعدادا قديمة من المجلات المصرية التي تعود إلى أوائل الأربعينات، وإذا بي أقع على مقالة للأستاذ الراحل فكري أباظة تحت عنوان: (مذكرات أسبوع) يقول فيها عن مشاهداته لمدينة (الإسماعيلية): «أنا الآن في الإسماعيلية، هذه المدينة الظريفة التي يقولون عنها إنها (السكون الشامل)، الشوارع متسعة نظيفة، الحدائق منظمة وفي غاية الجمال، العمال مبتسمون: مرتب ضخم، معاش ثابت، تعليم مجاني للأبناء، امتيازات متعددة، أتدرون من مصدر هذه النعم كلها بعد الله؟ إنها شركة (قنال السويس)، هي التي تتولى التنظيم والتنسيق، وهي التي تفرق المرتبات والمعاشات والامتيازات على العمال وأبناء العمال. شركة (القنال) هي التي جعلت الإسماعيلية جنة دنيوية، وفردوسا عالميا، هي التي جعلت كل شيء يبتسم في هذه المدينة: الإنسان والحيوان والنبات.....» .

فنحيت المجلة جانبا قبل أن أكمل الموضوع، متذكرا الإسماعيلية التي مررت بها قبل سنوات قليلة ولم أجد بها أي سكون لا شامل ولا غير شامل.

وتاريخيا أخذت تلك المدينة اسمها من الخديو إسماعيل، وأصبح لها أهمية بعد حفر قناة السويس التي خطط لها ونفذها المهندس الفرنسي (ديليسبس) عام 1854، والذي كان له تمثال على مدخلها، وبعد تأميم (القنال) نزع تمثاله ورمي في مخزن هو أشبه ما يكون بصندوق الزبالة الكبير.

أنتم تعرفونني فأنا لا أحب الحديث في السياسة، ولكن المواضيع أحيانا ترغم الإنسان على الخوض في أمور لا يحبها. أقول - والله يعينني على غضب البعض - إنه لو تحلى الرئيس عبد الناصر بقليل من صبر الزعيم الصيني (ماو تسي تونغ) الذي أعادت بريطانيا (هونغ كونغ) لبلاده من بعد 99 سنة حسب الاتفاقية على طبق من ذهب. أقول: إنه لو لم ينفعل عبد الناصر ويؤمم القنال، وصبر ثمانية أعوام فقط، بعد أن صبرت مصر 91 سنة، لرجعت أيضا قناة السويس إلى مصر حسب الاتفاقية على طبق من ذهب، وساعتها لم تكن هناك (حرب السويس) العبثية، ولا (حرب يونيو/ حزيران) الكارثية، ولا احتلال إسرائيل لسيناء مرتين، ولا تهدمت مدن القناة كلها، ولا هجر ما لا يقل عن أربعة ملايين إنسان، وملأوا القاهرة بالعشوائيات وسكنوا المقابر.

وتأملوا - يا رعاكم الله الفرق بين الحكمة والصبر، وبين الانفعال والخطب الجماهيرية النارية، على الرغم من أن مصر ليست هي أكبر ولا أغنى ولا أقوى من الصين، وعلى الرغم من أن عبد الناصر ليس هو أكثر نفوذا وجبروتا من ماو تسي تونغ، ولكن سبحان مقسم (الأعصاب) (!!).

تصوروا معي مجرد تصور، لو أن تلك الخسائر المادية الفادحة التي تكبدتها مصر من جراء ذلك الانفعال، لو أنها كرست لتوسيع قناة السويس وأصبح لها مساران، (واحد للرايح وواحد للجاي)، ماذا كان سوف يحصل؟!

لا أريد أن أقول لكم ماذا كان سيحصل، ولكن رجال الاقتصاد هم الذين يقولون: إنه لو حصل ذلك - وأتمنى أن يحصل يوما - سوف يرتفع دخل قناة السويس دفعة واحدة، ودون مبالغة من (خمسة مليارات دولار) في السنة مثلما هو الآن، إلى أكثر من مائة مليار دولار(!!)، وقد يتضاعف مستقبلا.

ألا قاتل الله الانفعالات، ولك الله يا مصر.

فعلا، مالي أنا، وما للسياسة.

[email protected]