طائرة بلا طيار.. تطرح أسئلة بلا إجابات

TT

«أفضل للمرء ألا يعطي مبررات على أن يعطي مبررات سيئة»..

(جورج واشنطن)

وصف حزب الله العمليات التي قتل خلالها عدد من عناصره عبر الحدود اللبنانية - السورية بـ«الواجب الجهادي».

أعتقد أنه من الصعوبة بمكان محاولة فهم سبب استخدام هذا المصطلح، لا سيما إذا كان العدو الذي يجاهد ضده «الشهيد المجاهد» هو الآخر مسلما ومجاهدا، وبالتالي، فقتلاه أيضا من «الشهداء المجاهدين».

هنا نغدو وسط متاهة «جهادية» أزعم أن السيد حسن نصر الله يود في قرارة نفسه لو لم يضطره «الولي الفقيه» إلى الخوض فيها. فالواقع أن للسيد نصر الله سوابق مشهودة في محاولة التملص من تهم الانخراط في حرب فتنوية إسلامية - إسلامية، على الأقل قبل أحداث مايو (أيار) 2008، عندما اجتاح مسلحوه بيروت وحاولوا تحرير الجبل من سكانه. ذلك أن للسيد نصر الله خطبة عصماء ما زال اللبنانيون يذكرونها جيدا ناشد فيها السلطات اللبنانية تنفيذ عقوبة الإعدام في كل من يدان بالتخابر والاتصال بإسرائيل، ويومها قال بأريحية مشكورة إنه يطالب بأن يكون المدانون من الشيعة أول من تُنفذ فيهم العقوبة..

وحقا، خلال السنوات القليلة الماضية، حرص السيد نصر الله وحزب الله ومَن يمثّلان على التحالف استراتيجيا مع تيار الجنرال ميشال عون.. على الرغم من سوابق عون التي يعرفها جيدا الحزب وأمينه العام، وطبعا، الجهات التي تشرف عليه وتكلفه شرعيا. وكانت الاستعانة بعون تكتيكا تمويهيا مدروسا لشق المسلمين وافتعال الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة من دون تحمل مسؤوليتها. وهكذا كلف عون - الذي لا يحتاج إلى تشجيع أصلا - بفتح معركة طائفية شرسة ضد القوى التي تشكل الغالبية الساحقة من الرأي العام السني، بينما كان الحزب ينفق «المال الطاهر» على اصطناع دمى تافهة تؤدي دور «أحصنة طروادة» داخل طوائفها، مكملة الدور التحريضي والتأجيجي المكلف به عون وتياره، وكل هذا على حساب قيام الدولة اللبنانية ومؤسساتها.

وفجأة، كما يتذكر اللبنانيون، انكشف دور الضابط فايز كرم، أحد أقرب أعوان عون، واتصالاته بالاستخبارات الإسرائيلية. وعلى الرغم من الأجواء العامة في لبنان في ظل احتكار حزب الله السلاح، فقد قال القضاء اللبناني كلمته بشجاعة، وحكم على كرم بالسجن ولو بعقوبة مخففة.

إلا أن حزب الله تغافل عن الموضوع برمته عندما صدر الحكم بالإدانة. ثم عندما أمضى كرم مدة محكوميته المختصرة، أعدّ له عون استقبال الأبطال والفاتحين.. ومجددا، تجاهل الحزب الأمر، وتناسى السيد نصر الله كلامه السابق عن أن التخابر مع إسرائيل من الكبائر.

وهنا لا بد من التذكير بأن فايز كرم - وهذه حقيقة يجب تأكيدها على الدوام - مجرد ضابط منضبط نشأ في بيت عسكري وآمن بالولاء والطاعة للقائد. وبالتالي، ما كان له أن يتخابر مع الإسرائيليين وغير الإسرائيليين من دون إحاطة رئيسه بالأمر. ثم عندما أدين، كان قمة في المناقبية لجهة تحمله المسؤولية وحده من أجل حماية رئيسه. ولعل هذا ما قدره له عون فكرمه على رؤوس الأشهاد لدى الإفراج عنه. ولكن هذا يعني عمليا، أيضا، أن المشكلة الأكبر ليست مع كرم، ولا حتى مع عون، بل هي مع حزب الله.. الذي جمع بقدرة قادر «الإصرار العنيد» على مهاجمة إسرائيل برا وبحرا وجوا.. لكن في الوقت نفسه السكوت على اتصالات حلفائه داخل لبنان مع الاستخبارات الإسرائيلية!

مصطلح «الواجب الجهادي» إذن غير مناسب إطلاقا اعتماده ضد جماعات إسلامية، بصرف النظر عما إذا كان من الجائز شرعا تكفيرها، أم لا، وكان أفضل لو لجأ السيد نصر الله إلى مصطلحات أقل تأجيجا للتعصب الطائفي والفتنة المذهبية، كـ«العمل النضالي» مثلا، أو «حماية ظهر المقاومة»، أو «الإبقاء على جذوة الممانعة»..

كان هذا الخيار أسلم وأوفق..

لكن السيد نصر الله - وهو رجل ذكي لا شك - ليس واثقا تماما من أن النظام الذي يدعمه حزب الله داخل قصر الرئاسة بدمشق وأقبية الاستخبارات الملحقة به.. نظام «مقاوم» و«ممانع» يستحق «النضال» من أجله، بدليل أنه لم يستخدم سلاحه منذ خريف 1973 إلا ضد شعبه.. ولم يدمر إلا مدنه وقراه.

ثم إن إسرائيل لو كانت حقا ترتعد فرائصها خوفا من القيادة السورية وسجلها الحافل بـ«المقاومة» و«الممانعة» بالكلام، لاستغلت ثورة الشعب السوري على النظام وتراجُع سطوة النظام الأمنية عن معظم أنحاء البلاد على امتداد أكثر من سنة ونصف السنة سقط خلالها أكثر من 33 ألف قتيل.. ومن ثم ضغطت في عواصم القرار الدولي من أجل إسقاطه..

لكن إسرائيل، لسبب ما خاص بها، لم تفعل..

وبالأمس، عندما أطلق حزب الله طائرة بلا طيار فوق جنوب إسرائيل.. اكتفت إسرائيل بإسقاطها واتهمت الحزب بأنه وراء العملية. غير أن السيد نصر الله حرص شخصيا على الإعلان عن أن الحزب أطلقها، والقول بأنها من صنع إيران، وتجميع شباب «الحزب» وفنييه، بينما الدولة اللبنانية كالزوج المخدوع آخر من يعلم، بل وآخر من يريد أن يعلم.

ومن جهة ثانية، بينما لاذت طهران بما يشبه الصمت عن العملية، وأحجمت عن تبنيها، كانت أجواء رئاسة الحكومة الإسرائيلية بعد اتصال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والمرشح الجمهوري ميت رومني تتعمد القول إنه في حال فوز رومني بالرئاسة فقد لا تكون هناك حاجة عند إسرائيل لضرب إيران!

هنا يجد المراقب نفسه أمام عدة أسئلة تنتظر إجابات هي:

هل يمكن أن يتصرف حزب الله من تلقاء نفسه، أي من دون أوامر من طهران؟

هل هناك الآن «تطابق» في المواقف والتنسيق العملي بين طهران ودمشق، خصوصا في ضوء موقف حزب الله المكشوف من الحرب التي يشنها النظام السوري على شعبه؟

هل التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة وتحت رئاسة باراك أوباما، حقا، يريد إنهاء الأزمة السورية بحل حقيقي ينطلق من مرحلة انتقالية تبدأ من تنحي بشار الأسد وحلقته الداخلية؟ وما هو الدور الموكل لتركيا في المسرحية المأساوية التي يجري «تمثيلها» الآن «على» السوريين؟

هل إسرائيل جادة أصلا في تهديداتها لإيران؟

هل هناك توافق ضمني إيراني - إسرائيلي على تأييد رومني في معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية، من منطلق العداء المشترك الإسرائيلي الإيراني لـ«الحالة السنية» الخارجة بقوة من «الربيع العربي»؟

المرجح أن الانتخابات الأميركية المقررة في الأسبوع الأول من الشهر المقبل، بغض النظر عن النتيجة التي ستفضي إليها، ستزيل بعض علامات الاستفهام خلال بضعة أسابيع.. أو بضعة أشهر على الأكثر.

أيضا نتنياهو، على رأس اليمين الإسرائيلي المتطرف، موعود بتفويض شعبي أكبر في الانتخابات الإسرائيلية المبكرة المتوقعة خلال يناير (كانون الثاني) المقبل، وهذا ما يمنحه منذ اليوم هامش مناورات وابتزاز أوسع من أي وقت مضى..

وفي هذه الأثناء يرتفع معدل القتل اليومي في سوريا إلى نحو 200 قتيل، ويتسارع انهيار مقومات الدولة، ويطل على النازحين السوريين داخل بلادهم والدول المجاورة شتاء مؤلم وصعب سيفاقم معاناتهم.. بينما يتغول النظام في الدم، هاربا من أي حل حقيقي، ومسلحا بالدعم إيراني.. «المُبارك» روسيا وصينيا وإسرائيليا.