إيران وروسيا والأطلسي.. والتصعيد السوري ـ التركي

TT

شهدت الأزمة السورية تصعيدا خطيرا بعد سقوط قذيفة سورية على بلدة «أكتشه قلعة» التركية والتي أودت بحياة خمسة أتراك. وخلافا للفترة السابقة التي تم فيها إسقاط الطائرة العسكرية التركية في يونيو (حزيران) الماضي، اتسم رد فعل أنقرة بحدة أكبر، إذ قامت المدفعية التركية بقصف أهداف داخل الأراضي السورية. واستصدرت الحكومة مذكرة تفويض من البرلمان التركي يأذن لها بالقيام بعمليات عسكرية في العمق السوري. ورغم صدور مذكرة التفويض فإن المسؤولين حرصوا على ضبط ردود فعلهم تجاه الاستفزاز السوري وعدم الانجرار إلى فخ ربما تم الإعداد له من أطراف عدة. الموقف التركي رحب به حلفاء وأصدقاء تركيا، أما روسيا فقد عرقلت صدور بيان مجلس الأمن يدين النظام السوري.

وتوضح طبيعة الإجراءات التي اتخذتها أنقرة وتصريحات مسؤوليها أن تركيا بصدد نقل التعاطي مع الأزمة السورية إلى مستويات أكثر حزما. وتدرك أنقرة أن النظام السوري لا يمكن له أن يقوم بأي خطوة عسكرية وأمنية خارجية دون التنسيق مع الروس والإيرانيين، فلكل من موسكو وطهران مستشارون عسكريون يشاركون في عمليات التخطيط والتنفيذ لحماية النظام السوري من السقوط، على الأقل في هذه المرحلة. وكان لافتا أن ربط أردوغان في الطلب الذي تقدم به للبرلمان بين سقوط القذيفة السورية والأمن القومي التركي، مما يؤكد أن الأزمة السورية دخلت منعطفا جديدا بالنسبة لأنقرة.

وفي الواقع، فإن تطورات في المنطقة أقلقت صانع القرار التركي، حيث يفهم منها أن سقوط القذيفة السورية على الأراضي التركية إنما هي حلقة من حلقات «لي الذراع» بين أكثر من طرف إقليمي ودولي حول موضوعات أخرى تتشابك مع الأزمة السورية، من قبيل الملف النووي الإيراني والعلاقات الروسية بحلف الأطلسي وكذلك تطورات العلاقات الإيرانية - التركية - العراقية.

إيران شعرت أن العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها بسبب ملفها النووي بدأت تؤثر على اقتصادها وأمنها الاجتماعي والسياسي، إلى درجة صار فيه البعض يتحدث عن «ربيع فارسي» قادم قد يعصف بالنظام الإيراني. وازدادت المخاوف الإيرانية بعد انهيار عملتها الوطنية مؤخرا وما نتج عنه من اصطدام التجار مع الشرطة في طهران، الأمر الذي دفع مرشد الجمهورية علي خامنئي للحديث عن «مؤامرة الريال».

وبالتوازي مع الضغوط الداخلية على النظام الإيراني، بدأ الأوروبيون مناقشة إمكانية فرض حظر تجاري ومالي أوسع على طهران يشمل قطاع الطاقة والبنوك. وتذكر الخطوة الأوروبية بردود الفعل الإيرانية في أواخر عام 2011 وبداية 2012 عندما هددت بإغلاق مضيق هرمز في حالة ما إذا فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية عليها، ولكن هذه التهديدات لم تؤد إلى إيقاف إصدار عقوبات جديدة، بل نتج عن تكرارها قيام واشنطن في سبتمبر (أيلول) الماضي بأكبر مناورة بحرية في تاريخ الشرق الأوسط بمشاركة 30 دولة، وذلك كرسالة موجهة لإيران بأن مضيق هرمز خط أحمر. فهمت طهران الرسالة فاتجهت إلى التركيز أكثر على الورقة السورية والعراق. وتعتقد إيران أن أحد مداخلها لمواجهة الولايات المتحدة هو إضعاف واستهداف حليفها تركيا، بل والعمل على إيجاد تناقضات في العلاقات الأميركية - التركية. وهكذا سعت طهران من خلال حليفها في بغداد نور المالكي إلى دعوة واشنطن للضغط على أنقرة من أجل الامتناع عن قيام الطيران الحربي التركي بقصف شمال العراق بدعوى ملاحقة «حزب العمال الكردستاني». وبالتوازي مع تلك الدعوة طلبت الحكومة العراقية من البرلمان إلغاء أو عدم التمديد للقواعد الأجنبية فوق الأراضي العراقية، وذلك في إشارة إلى المواقع العسكرية التركية في الشمال والتي أنشئت بموجب اتفاق سابق مع نظام صدام حسين.

وفيما يبدو محاولة من طهران للضغط على أنقرة وواشنطن عبر العراق وفق السيناريو الأسوأ، أي سيناريو سقوط حليفها في دمشق، قام وزير الدفاع الإيراني أحمد وحيدي بزيارة للعراق، وهي أول زيارة يقوم بها وزير دفاع إيراني للعراق منذ 1979. وبعدها قام قائد القوات البحرية الإيرانية بزيارة لبغداد والالتقاء بنظيره العراقي. وتكتسب أهمية هذه الزيارات في سياق عرض سابق لطهران على بغداد للتوقيع على اتفاقية التعاون الأمني والعسكري، وذلك خلال آخر زيارة قام بها نور المالكي لإيران. حكومة المالكي طلبت من طهران التريث إلى غاية أن يتضح الموقف والتأثير الأميركي على تركيا لإيقاف الغارات الجوية في شمال العراق، وقد يكون هذا الملف إحدى القضايا الرئيسية التي سيتم مناقشتها خلال الزيارة المرتقبة للرئيس الإيراني أحمدي نجاد للعراق بعد عودة المالكي من روسيا وجمهورية التشيك.

أما روسيا فإنها رغم دعوتها كلا من تركيا وسوريا «لضبط النفس» على خلفية التصعيد الأخير، فإنها بدورها تستعمل الورقة السورية لإضعاف موقف أنقرة في الساحة الإقليمية. وترى موسكو أن الضغط على تركيا عبر سوريا يحقق لها أهدافا استراتيجية تتصل بإحراج حلف الأطلسي، وإظهاره كمنظمة تعجز عن الدفاع عن أحد أعضائها. وتربط موسكو موقفها من الأزمة السورية بمسعاها إلى إقناع دول آسيا الوسطى بعدم جدوى بقاء قواعد الولايات المتحدة وحلف الأطلسي في جوارها الإقليمي بعد الانسحاب من أفغانستان. وتعتقد روسيا أن إضعاف تركيا من خلال الملف السوري هو إضعاف لقدرة أنقرة على أن تلعب أدوارا في آسيا الوسطى والقوقاز بالتعاون مع واشنطن. ولكن هذا لا يعني أن موسكو ترغب في إلغاء الدور الأميركي نهائيا في هاتين المنطقتين، بل إن هذا الدور مطلوب أحيانا، لمحدودية قدرات روسيا في مواجهة كل المشاكل في هذه المناطق، لا سيما عندما تنخفض أسعار الطاقة. إن أحد الأهداف الرئيسية لروسيا من خلال الضغط على أنقرة، هو الإبقاء على التأثير الأميركي بالمنطقة في الحدود التي تستطيع من خلالها موسكو أن توسع نفوذها وتأثيرها في السياسات الدولية.

ونظرا لالتقاء المصالح الإيرانية والروسية بخصوص الأزمة السورية والتصعيد ضد أنقرة وواشنطن، فإن موسكو تسعى بدورها إلى تطوير علاقاتها بالعراق. وفي هذا الإطار تأتي دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لنوري المالكي لزيارة روسيا. وهي الزيارة التي شملت مباحثاتها قضايا توسيع الاستثمار الروسي في قطاع الطاقة والبنية التحتية في العراق، وبمشاركة المقاولات المتوسطة والصغيرة الروسية بدل الاقتصار على الشركات الكبرى. وفي الحقيقة، فإن مجالات التعاون الاقتصادي في مباحثات المالكي بموسكو لم تثر مخاوف كبيرة لدى أنقرة وواشنطن، بقدر ما أثارتها صفقة السلاح التي بلغت 4.2 مليار دولار شملت تعزيز منظومة الدفاع الجوي العراقي، وذلك برغم تأكيد المالكي أن الصفقة ليست بديلا عن السلاح الأميركي. والملاحظ أن أطرافا سياسية عراقية، مثل «الاتحاد الكردستاني»، أبدت مخاوفها من هذه الصفقة، إذ تخشى أن يستغلها المالكي ضد منافسيه وخصومه عبر بوابة الأزمة السورية وتداعياتها الإقليمية.

يتضح في ضوء التحليل السابق أن سقوط القذيفة السورية على الأراضي التركية لم يكن خطأ غير مقصود، بل هو حادث يراد منه الإبلاغ أن الأزمة السورية قد دخلت مرحلة جديدة سمتها الإعلان غير الرسمي عن قيام تحالف روسي إيراني عراقي في مواجهة سيناريو سقوط نظام بشار الأسد. وعلى هذا الأساس قامت تركيا من خلال المذكرة البرلمانية بإعلان غير رسمي عن جاهزيتها عسكريا للتصدي لتحالف يستهدف أمنها القومي وإضعاف نفوذها وتأثيرها الإقليمي.

* باحث في منظمة

البحوث الاستراتيجية الدولية (أوساك) في أنقرة