رواجع اللغة

TT

يحرمني السفر من حمل الدفاتر. وبدل أن يكون الدفتر جزءا أساسيا من عملي، أكتشف في نهاية العام أنني أهملت عليه أكثر مما دونت فيه. وفي هذه الدفاتر المتقطعة أسجل عادة ما أحب أن أحفظ. وغالبا ما يكون ذلك من بحر المفردات وسحرها.. أو فلنقل المعاني، لأن الألفاظ وحدها لا قيمة لها. واللغة تعظم بالابتداع لا بالنقل. والنقل المرصوف سرقة موصوفة.

من هم الذين أدون عنهم المفردات الذهبية؟ قلائل. ولا قاعدة عامة. والتقطع، اللعنة على التقطع. ولهذا هم قلة في دفتري وليس في الحقيقة. فما زال للغة من يملأها حسا وفكرا ورفعة، بدل أن يجوفها ويحولها إلى هامش على القاموس.

من الذين دونت لهم الكثير في دفاتر الحفظ، الدكتور إميل المعلوف، أستاذ الآداب العربية في الجامعة اللبنانية - الأميركية. وقد اشتهر المعالفة في لبنان بعلاقة عميقة خاصة مع اللغة، نثرا وشعرا. وإذا كان أمين المعلوف قد هاجر إلى الفرنسية فإنما بعد رحلة انتهالية في ينابيع اللغة وأوديتها. ولم نقل ذراها لأن الأودية مسقط المطر وخضرة رواجعه.

وعنوان إميل المعلوف الجديد «رواجع البروق». وقبل أن أبدأ في قراءته وضعت دفتري إلى جانبي. لأن هذا العاشق اللغة يقرأ كفرض لا ككتاب. أي كدرس لمريدي التعلم. وإليك بعض ما فيه، ولو في تناثر واقتضاب.

«إن الكلام المنظوم بطريقة فنية لا يوضح معنى، بقدر ما يضيف إلى المعنى معنى آخر». «فنحن نسمع في الكلمات أكثر مما نرى في الأشياء». «عندما ينظم شاعران في موضوع واحد فالموضوع ليس واحدا». «ألسنا نرى في أعمال كثير من الكتاب والشعراء أمثال سينك والمتنبي وشكسبير ما هو أعمق تمثيلا وتفسيرا لما يحدث في الحياة؟!». «والشعور هو إدراك من غير إثبات وكأنه إدراك متزلزل». «والشاعر هو فنان يهدف إلى جعلنا نحس بما لا يستطيع أن يقنعنا به. والناثر هو مفكر يهدف إلى جعلنا نفعل ما لا يستطيع الإحساس أن يقنعنا به».

عن المتنبي: «ولما خلت الديار من ساكنيها ظلت أحيلة غانياتها متطبعة في قلب الشاعر وكأنها لم تفارق. غير أن من كان منهن أفتك بمهجته فهي البخيلة بالوصل والهروب من الاستجابة لداعي الغرام. ومن عادة هذي الغيد أنها كانت ترمي عشاقها بسهام لحظهن القاتل وهن غافلات عنهم غير مقبلات عليهم:

نصيبك في حياتك من حبيب

نصيبك في منامك من خيال».

«وملاقاة المنزل الفارغ من أهله يظل، بالنسبة إلينا، حيا بأشيائه التي أسقط عليها ساكنوه ما يتعلق بهم من الصفات والأفعال». «وفي أوان التذكر تتوحد الأزمنة الثلاثة، فيصبح الماضي حاضرا وكذلك المستقبل. إلا أن حلولهما في الآن هو حلول فكري محض لا يلبث أن يتزايل».