رحلة الألف ميل تبدأ «بقفزة»!

TT

لا شك أن قفزة المغامر النمساوي من حدود الغلاف الجوي الخارجي نحو الأرض واختراقه لجدار الصوت بجسده لأول مرة في التاريخ، قد حركت سواكن الهمة والحماسة في قلوب ملايين الناس ممن كانوا يشاهدون هذه اللحظة التاريخية التي فتحت الباب مواربا لمزيد من المحاولات وربما الدراسات العلمية مثل نظريات نيوتن وغيره.

قفزة المغامر فيليكس بوجمارتنر كانت لقطة رمزية للعالم كله بأن الإنسان لن يحقق شيئا من أهدافه ما لم «يحاول». مشكلتنا أننا ننسى أن كل هدف تحقق على أرض الواقع كان وراءه محاولة جادة، ولولا المحاولات لبقيت أهدافنا أحلاما بعيدة المنال. أهمية المحاولة تكمن في أنها إما أن تحقق الهدف كله أو جزءا منه، أو أنها ترفع احتمالية تحقيق الهدف بخلاف الحال حينما لا نفعل شيئا ألبتة فإن الاحتمالية تكون صفرا. كما أن روعة المحاولة تتمثل في أنها تمهيد للطريق لمن يأتون خلفنا لعلهم يفلحون في جني ثمار محاولاتنا الدؤوبة، على غرار فكرة سباقات التتابع الرياضية والاختراعات العلمية.

ولولا المحاولات لما أصبح الأفريقي باراك أوباما رئيسا لأعظم دولة في العالم (أميركا)، ولما نال منتخب من الدرجة الثانية شرف دخول كأس العالم لكرة القدم، ولما حطم لاعب مغمور وربما معاق جسديا أرقاما قياسيا في دورة الألعاب الأولمبية. ولولا المحاولة لما طارت الطائرات ولما جابت السيارة طرقات العالم، ولأصبحت لدينا سفن عملاقة بحجم مدينة كاملة تمخر عباب البحر بمن عليها.

المحاولة وحدها لا تكفي، فلا بد أن تكون مدفوعة بالرغبة الجادة والمقدرة والإصرار والتوقيت المناسب. وأذكر هنا موقفا تاريخيا حينما رفضت الناشطة الأميركية من أصل أفريقي «روزا باركس»، في حقبة الستينات، أن تقوم من مقعدها في حافلة النقل العام، استجابة لطلب قائد الحافلة الذي أراد أن يجلس مكانها راكبا أبيضا، إذ كان على السود آنذاك أن يتخلوا عن مقاعدهم للبيض، وكذلك الحال في مداخل الإدارات الحكومية والمرافق العامة كان يعلوها لافتات كتب عليها كلمة «ملون»، (Colored) وأخرى كلمة «أبيض» للتمييز بينهم حتى في دخول المباني، الأمر الذي ما رأيته بعيني في متحف أميركي! إلا أن إصرار «روزا باركس» على حقوقها كإنسانة، في الوقت المناسب، كان محاولة ذكية منها أشعلت فتيل المطالبات بحريات مدنية للأقليات في أميركا، وأذكت بموقفها ثم اعتقالها من قبل الشرطة نار المواجهات العنيفة مع السلطات توجت في نهاية المطاف بقانون الحريات المدنية الذي حرم التمييز على أساس العرق في الولايات المتحدة، فدخلت البلاد، وربما العالم معها، عصرا جديدا من احترام الأقليات. كل ذلك كان بسبب المحاولة الذكية في التوقيت المناسب.

إن «خطوة» الأميركي نيل أرمسترونغ، أول من مشى على سطح القمر، و«قفزة» المغامر النمساوي مثالان رمزيان على أننا جميعا نحتاج إلى قفزة أو خطوة، لكن في الاتجاه الصحيح اقتداء بالمثل العالمي الشهير «إن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة».

* كاتب متخصص في الإدارة

[email protected]