تأملات في مسار الثورة المصرية

TT

لست محللا سياسيا ولا أصلح أن أكون، فالعاطفة عندي أقوى من العقل، وهو ما يعطل القدرة على الرؤية السليمة، أنا مجرد فنان يكتب للصحافة، وقبل ذلك أنا رجل شارع أتأثر سلبا وإيجابا بكل ما يحدث فيه. هذه المرة أحدثك بوصفي مجرد مواطن يحاول أن ينقل إليك انفعالاته بأكبر قدر مستطاع من الصدق.

لست أجلس على الشاطئ مراقبا أمواج البحر، بل أنا بينها وهي تتقاذفني في كل اتجاه، أحاول بكل ما لدي من جهد أن أبقى طافيا على السطح، مؤجلا قدر استطاعتي التفكير في تلك اللحظة التي تخور فيها قواي وآخذ طريقي إلى القاع.

تتوالى الصور واللقطات والمشاهد في ذهني، أحداث ماسبيرو، الجرحى والقتلى يتم نقلهم إلى معهد ناصر القريب، هو مستشفى كبير على بعد عدة كيلومترات في نفس شارع كورنيش النيل، صرخات الجرحى وصرخات الأهالي الملتاعة، سيدة تدخل صارخة نائحة مولولة ومعها شخص يساعدها في حمل جثة زوجها، إنه أحد شهداء أحداث ماسبيرو، اللقطات التالية عودة إلى الخلف (Flash back)، السيدة تمتلك كافيتريا في مدينة صغيرة قريبة من القاهرة، وهي متزوجة من شاب يعمل في بنك، غير أنها على علاقة غير شرعية - وإن كانت ممتعة - بمدير الكافيتريا، الاثنان وجدا في الثورة وأحداثها، فرصة للتخلص من الزوج، وهذا ما حدث، قتله صاحبها، وحمل الاثنان الجثة وذهبا بها إلى المستشفى، بالتأكيد كانت هذه هي فكرة السيدة، وبالتأكيد أيضا كانت في هذه اللحظات تحسد نفسها على أنها تمكنت في خبطة واحدة من التخلص من زوجها، ثم تحويله إلى شهيد، فتحصل بذلك على مائة ألف جنيه مصري على الأقل بالإضافة بالطبع لظهورها في بعض الفضائيات لتدين بقوة هؤلاء الأوغاد الذين يعطلون حصولها على حق الشهيد.

غير أن عدالة السماء لم تكن نائمة، ذهب أخو الزوج إلى بيت أخيه (الشهيد) ليجمع حاجاته الخاصة فلاحظ بقعا من الدماء على الحائط والأرضية فأبلغ الشرطة، وانكشفت الحكاية، لم يكن أخوه شهيد ثورة، بل قتيل خيانة، ترى كم من الحكايات لم تكشف بعد؟

هذا هو نوع من آليات التفكير عند بعض الناس، أكثر قضايا التاريخ نبلا وهي العيش والكرامة والحرية، تتحول عندهم لغطاء مربح لأكثر أنواع الجرائم خسة، وتتوالى الصور.. آه.. هذا هو أنا، شخص خائف معظم الوقت على الرغم من حصوله منذ عدة أعوام على جائزة الشجاعة المدنية، وهي تعطى لهؤلاء الذين يحاربون الشر بلا توقف، لا بد أن هذا الشخص الذي هو أنا قد فقد شجاعته ويفكر في الهروب إلى مكان آمن. وفي تركيا التي كنت أبحث عن مكان فيها يتيح لي أن أبقى في المنطقة وفي أوروبا في الوقت ذاته، تأكدت أنني مخطئ، هناك نوع من البشر لا بد أن يظل موجودا على سطح السفينة مهما كانت قوة الأنواء والعواصف. لست أتكلم عن القبطان وبحارته، عند غرق السفينة «تيتانيك»، ظلت الفرقة الموسيقية تعزف بحماس، بينما السفينة في طريقها إلى قاع المحيط، لست جنديا أقف في نوبة حراسة، ولست زرقاء يمامة أنبه قومي إلى أخطار قادمة من بعيد فلا يصدقني أحد. أنا مجرد عازف في فرقة موسيقى الحرية والإبداع، من العار أن أتوقف عن العزف وأغادر مكاني. وتتوالى الصور.. نعم، هؤلاء هم مستشارو الرئيس، كان الله في عونه، من كان هؤلاء هم مستشاروه، بالقطع هو ليس في حاجة إلى أعداء. كلهم يتحرقون شوقا لإلغاء اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، أو على الأقل تعديلها تمهيدا للدخول في حرب مع إسرائيل وكأن وجود سيناء تحت السيادة المصرية يعذبهم.

في المطار عائدا من دبي، حدث المشهد الذي لم يحدث لي منذ وقت طويل، لسنوات طويلة كان ضابط الجوازات المسؤول ينظر في جواز سفري فيسود التوتر ملامحه ثم يطلب مني أن أقف بجواره ثم يرسل الجواز إلى مكان ما ليعود بعد دقائق، تحملت ذلك لسنوات وقبل الثورة كتبت مقالا أنبه فيه إلى خطأ هذا الإجراء من الناحية الفنية، ما دام اسمي ليس موجودا في كشف ترقب الوصول، لا داعي لإحراجي أمام المسافرين. واختفى هذا الإجراء منذ بداية الثورة ثم عاد وكأن شيئا لم يكن، أدركت على الفور أن الإدارة كلها يسودها توتر شديد، كل اسم في مصر له نصيب من الشهرة، مطلوب بتهمة ما. أو ممنوع من السفر أو هو في خانة ترقب الوصول لمحاسبته ومحاكمته، بالتأكيد هذا الضابط الشاب فكر في أنه من المستحيل أن يكون هذا الكاتب المثير للجدل، لم توجه له تهمة بعد.

ما زلت بين الأمواج واللقطات تتوالى.. عدد من البلاغات مقدمة ضد المشير طنطاوي واللواء عنان، قائد الأركان السابق، بتهمة قتل المتظاهرين في أحداث ماسبيرو وشارع محمد محمود، يا إلهي.. هل السادة مقدمو البلاغات محرومون من أقل قدر من الخيال؟ هل كانوا متظاهرين هؤلاء الذين حاولوا اقتحام وزارة الداخلية؟ لماذا في هذا الوقت بالتحديد ينشر هذا الكلام، بينما الجيش المصري يخوض معركته في سيناء، لماذا ندفع الآلاف من ضباط الجيش المصري إلى الإحساس بالغضب واليأس والإحباط، بغير سبب جاد؟

لماذا لم تتوفر للسادة مقدمي البلاغات أدنى درجة من درجات الوعي تمنعهم من جر القوات المسلحة في هذا الوقت الذي يتسم بالخطورة إلى معركة لا ضرورة لها؟ هل معنى ذلك أن مصر الآن لم يعد فيها من هو كبير وما هو كبير؟

إذا كان الأمر قد وصل إلى هذه الدرجة فلا بد أننا قد وصلنا إلى مرحلة خطيرة للغاية، إنها نفس الدرجة من الخطر التي تنبه لها الوعي الجمعي للمصريين الأجداد عندما قالوا لنا «اللي مالوش كبير.. يشتري له كبير». بالطبع من المستحيل أن تنزل إلى السوبر ماركت لتشتري لك كبيرا، فكل ما هو ومن هو كبير لا يباع ولا يشترى في الأسواق، هذا هو بالضبط ما يشير إليه المثل الشعبي، أن تفعل المستحيل من أجل أن يكون لك كبير. المهم في كل الأحوال ألا يتحول عالمك إلى صِغار وصَغار.

بدأت الأمواج ترتفع، أحمد الله على أنني ما زلت قادرا على السباحة.. أفكر في صيغة خطاب الرئاسة المصرية إلى (الصديق) شيمعون بيريس، أنا شخصيا أتمنى أن يكون السيد بيريس صديقا للرئيس المصري، فلا شك أن هذه الصداقة إن وجدت، ستسهم بقوة في حل مشكلات كثيرة، غير أنه ليس صديقا له ومن المستحيل أن يكون، فلماذا افتعال مودة لن يصدقها أحد؟

من أهم النصائح التي أعتز بها تلك التي جاءت في قصيدة ديزيتراتا مجهولة المؤلف:

Don’t feign affection

Neither be cynical about love

«لا تفتعل المودة، ولا تكن عابثا بشأن الحب». أخطر شيء في الحياة بوجه عام، وفي السياسة بشكل خاص، هو افتعال المودة، وأصحاب الخبرة من بين قرائي، يدركون ذلك، هم بالتأكيد دفعوا الثمن غاليا في الحالات التي افتعلوا فيها المودة مع أشخاص لا يشعرون تجاههم - حقا - بالمودة.

شكرا يا رب.. حتى الآن أنا قادر على السباحة والبقاء طافيا على صفحة الماء وصفحة هذه الجريدة.