لبنان بحاجة إلى حكومة إنقاذ بديلة

TT

صباح الجمعة، سألني هاتفيا قارئ مستعجل: ماذا ستكتب يوم الثلاثاء؟ قلت: لا أدري. مبدئيا، إذا لم تحدث تطورات مفاجئة، سأدعو الأخضر الإبراهيمي إلى التنحي والتقاعد، لأن استمرار مهمته منح النظام السوري الفرصة لقتل ستة آلاف إنسان، خلال شهري الوساطة التي أحرقت «الأخضر واليابس».

عيد؟! بأية حال عاد الأخضر الإبراهيمي؟ كان التطور المفاجئ اغتيال اللواء وسام الحسن مدير «فرع المعلومات» في المؤسسة الأمنية اللبنانية. بعد ظهر يوم الجمعة، غدا الأمن السياسي اللبناني كله موضوع الساعة.

بعد «إقالة» وسام الحسن القسرية، هل تستقيل حكومة نجيب ميقاتي؟ المناور السياسي ميقاتي وضع حكومته المهزوزة وديعة «مفخخة» لدى الرئيس المُحْرَج ميشال سليمان.

المشكلة أن لبنان الرسمي بات وديعة لدى «حزب الله» العراب الحقيقي للحكومة الميقاتية. وحزب الله وديعة لدى إيران. والدليل الأخير طائرة التنك (أيوب) التي طيرها الحزب لحساب إيران، في أجواء إسرائيل والضفة المحتلة. فهل يملك العماد ميشال صبر أيوب، وحكمة سليمان ليطير حكومة ميقاتي، من دون أن يزعج الحزب. ونجاد. وبشار؟

أعتقد أن لبنان، بعد مقتل الضابط وسام الحسن، بحاجة إلى حكومة مؤقتة. حكومة إنقاذ عسكرية. أو حكومة مدنية غير سياسية. قادرة، مؤقتا وحقيقة، على تنفيذ مبدأ «النأي» عما يجري في سوريا. هذا النأي الذي نادت به حكومة ميقاتي، وأجبرها عرابها الحزبي على تجييره لصالح سوريا بشار.

اللبنانيون، في الأيام الخوالي، كانوا مولعين بتطيير طيارات الورق على شاطئ البحر. وحتى الرؤساء السابقون امتهنوا تطيير حكومات عسكرية. أو مدنية محايدة، ريثما يعود ساسة الطوائف المتناحرة إلى صوابهم، فيشكلون حكومة نيابية من ائتلافات سياسية وطائفية مختلفة.

لكن لماذا يحتل ضابط أمن كل هذه الأهمية، بحيث يؤدي اغتياله إلى احتمال تطيير حكومة مدعومة من إيران. وسوريا. وحزب الله وكيلهما وسمسارهما في لبنان؟ لأن اللواء وسام الحسن لم يكن ضابط أمن عاديا. كان الأمن اللبناني قبله «الشاهد اللي ما شافشي حاجة» في كل جرائم الاغتيال السياسية. ولم يكن النظام اللبناني يرغب، في ضعفه، في أن يوكل لجهازه القضائي الأكثر ضعفا، المغامرة في تحقيق أو إدانة، قد يثيران زوابع داخلية أو عربية تهز استقرار لبنان.

كسب وسام الحسن ثقة الساسة ومعظم اللبنانيين، بجرأته في تفكيك شبكات التجسس الإسرائيلية التي اخترقت الأحزاب، بما فيها «حزب الله»، والجيشين الإيراني والسوري. وحقق امتيازا متفوقا في تقديم معلومات ومستمسكات، إلى المحكمة الدولية، عن تورط حزب الله والنظام السوري، في مقتل رفيق الحريري رئيس الحكومة الأسبق.

هذه الحرفية الأمنية/ السياسية وضعت اللواء الحسن في مرمى الهدف المشترك للمخابرات السورية. الإسرائيلية. الإيرانية، من دون أن توفر الدولة اللبنانية له الحماية، بسبب هيمنة الطوائف الرئيسية، على الأجهزة المخابراتية.

هنا يمكنني أن أحدد فضيحة التوزيع الطائفي لهذه الأجهزة: جهاز الأمن العام (شيعي). جهاز قوى الأمن الداخلي (سني) وترأس اللواء الحسن «فرع المعلومات» فيه. المخابرات العسكرية، ومخابرات أمن الدولة (جهازان مسيحيان بغالبية مارونية).

وأضيف بأن وزيري الدفاع والداخلية المحسوبين على الرئيس سليمان ليسا بقادرين على السيطرة، على هذه الأجهزة المتنافسة والمتناحرة. وها هو اللواء مروان شربل وزير الداخلية، وَعَبرات الحزن على وسام الحسن تخنقه، يعترف علنا بأنه نصحه بالتغيب عن لبنان، خوفا على حياته، بعد كشفه خلية ميشال سماحة في أغسطس (آب) الماضي.

اختصارا، أحصر حديثي في الجانب الأمني. لا السياسي، فأقول إن الرئيس العماد فؤاد شهاب كان المؤسس الحقيقي للمخابرات اللبنانية (المكتب الثاني) الذي ضمن أمن لبنان واستقراره في الستينات. وانهار نفوذ هذا الجهاز بغياب شهاب، وبالتورط الفلسطيني في السياسة اللبنانية، مما أدى إلى نشوب الحرب اللبنانية (1975). ثم غاب الأمن اللبناني بالتدخل العسكري/ الأمني السوري. ثم أعيد إنشاؤه في التسعينات، تحت الهيمنة السورية.

بعد مقتل الحريري والانسحاب العسكري السوري (2005)، تم التوسع بأجهزة الأمن اللبنانية. لكنها ظلت مخترقة سوريا. وشيعيا. فجهاز الأمن العام (الشيعي) يسيطر على مطار بيروت الوحيد في لبنان. والطريق إليه يتحكم به حزب الله، بحيث يعرف الحزب والجهاز كل من يخرج ويدخل إلى لبنان.

وهكذا، تمت ملاحقة اللواء وسام الحسن إلى مقره السري في حي الأشرفية، فور عودته إلى بيروت من أوروبا. وجرى تفجير المقر صبيحة اليوم التالي. وفيما ضيقت حكومة ميقاتي الإنفاق على الجهاز (السني)، أغدقت الإنفاق على أجهزة الأمن الأخرى. ويعترف الوزير شربل بأنه لم يُعثر حتى على أشلاء جسد اللواء الحسن. واكتُفي بوضع أوسمته في نعش التشييع.

الصحيفة الرصينة لا تتهم. ولا تصدر حكما، إلا بعدما يحقق القضاء. ويدين. أو يبرئ. لكن الصحيفة تستطيع أن تعرض ملابسات الجريمة. وتحليلها سياسيا في ضوء المعطيات الأمنية. من هنا، أقول إن جريمة كبرى، كاغتيال الحريري واللواء الحسن، تحتاج إلى بنى أساسية مخابراتية. وتقنية تفجيرية، وخلايا ميدانية جاهزة للعمل. كل ذلك لا يتوفر في لبنان، سوى للمخابرات السورية. ولحزب الله. وربما للمخابرات الإسرائيلية.

اللواء الحسن تمكن من تقديم معلومات أمنية بالأسماء. والمستمسكات. والتسجيلات الهاتفية. بعد ضبط الوزير الأسبق ميشال سماحة بالجرم المشهود، متلبسا بنقل المتفجرات التي زوده بها اللواء علي مملوك مدير أكبر جهاز مخابرات سوري، مع التعليمات باستخدامها في محاولات اغتيال، تطال شخصيات سياسية وروحية كبيرة، كبطريرك الموارنة بشارة الراعي. وطالت الاتهامات فيها بثينة شعبان الخبيرة الإعلامية (العلوية) في مكتب الرئيس بشار.

ما يثير الشبهة القوية، بالدور السوري، أن اللواء الحسن لم يقتل بالاغتيال الفردي، إنما بالتفجير الجماعي الذي لا يترك أدلة دامغة، فيما ينزل، بلا رحمة، خسائر بشرية. فقد قتل مع اللواء الحسن سائقه المرافق له، وسبعة مدنيين. وأصيب مائة شخص، بينهم نساء وأطفال، بجروح بعضها بليغة.

أسلوب التفجير الجماعي اتُّبِعَ، في العصر السوري بلبنان، في اغتيال رئيسين للجمهورية (بشير الجميل. ورينيه معوض) ومفتي الجمهورية (السني) الشيخ حسن خالد، ورئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري. و«حليف» سوريا إيلي حبيقة. ثم في بعض الاغتيالات التي طالت ساسة. وصحافيين. ونوابا، بعد اغتيال الحريري.

لبنان. ليس تركيا. والعراق. والأردن. وإسرائيل. فهو وحده بؤرة التفجير الأسهل، لدى نظام الأسد الذي يخوض معركة موت أو حياة. وكلما ضاقت الحلقة على العنق الطويل، اشتدت شراسة النظام في عنفه. وإرهابه، لتفجير دولة صغيرة شقيقة، ضعفها في ديمقراطيتها الطائفية العجيبة.

لماذا سنة لبنان هي المستهدفة دائما؟ لأنها مرتبطة عائليا. عاطفيا. قوميا، بعروبة سنة سوريا التي يعاديها النظام العلوي. كل زعماء سنة لبنان التاريخيين، من رياض الصلح. إلى عبد الله اليافي. تقي الدين الصلح. صائب سلام. جميل بَيْهُمْ... حرصوا على الارتباط بالزواج بأسر سورية كريمة مماثلة. والرباط الاجتماعي التاريخي بين البلدين، لا يمكن أن تمحوه جرائم الاغتيال العابرة.