الاتحاد الأوروبي وجائزة نوبل

TT

لم تكن المفاجأة كبرى عندما حصل الاتحاد الأوروبي على جائزة نوبل للسلام؛ فقد سبق وحصلت «مؤسسات» وليس أفرادا على ذات الجائزة، كما حصلت مؤسسات بالإضافة إلى أفراد قائمين عليها على هذه الجائزة الرفيعة، مثل الصليب الأحمر الدولي، ومؤسسة باجواش العالمية، وكذلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي كان المصري محمد البرادعي رئيسا لها فشارك. المؤسسات إذن مثل الأفراد كان لها نصيب في التقدير العالمي على ما تبذله من جهد من أجل سلام العالم واستقراره. ولكن ربما كانت المفاجأة واردة في أن منح الاتحاد الأوروبي الجائزة جاء في وقت ربما لا يكون من أفضل أوقاته، حيث اشتدت الأزمة الاقتصادية، وبلغ السيل الزبى في آيرلندا واليونان وإسبانيا، وحتى إيطاليا وقفت على شفا الكارثة الاقتصادية.

ولكن الجائز هنا أنه ربما كانت هذه الأزمة الاقتصادية هي السبب المباشر في الحصول على الجائزة، فهي معركة أخرى يقودها الاتحاد الأوروبي خلال تاريخه الطويل ليس فقط من أجل الحفاظ على كيانه، وإنما أيضا اعتبار الأزمة فرصة من أجل دعم الاتحاد وتطويره، ربما حتى يقترب من الحلم التاريخي لقيام «الولايات المتحدة الأوروبية». فما جرى أن الأزمة الاقتصادية الطاحنة في عدد من البلدان الأوروبية طرحت حلولا، منها الخروج من منطقة «اليورو» المالية، وكانت هناك حلول أكثر راديكالية طرحت في اليونان، وهي الخروج من الاتحاد الأوروبي كلية، وهو ما كان سيفتح الباب لتفكك الاتحاد بعد وجود سوابق للخروج. جرت مثل هذه الأطروحات بعد أن تردد أن بعضا من الحل قد يأتي بأن تقوم اليابان وإسبانيا ببيع أصول سيادية، مثل الجزر، للتخلص من ديونها الباهظة؛ وبالطبع فإنه لا يوجد بلد على استعداد للتخلي عن أراضيه. وببساطة كان الأمر قريبا مما جرى في مصر خلال القرن التاسع عشر بعد أن تزايدت الديون المصرية وفوائدها الباهظة، وكانت النتيجة تخليها عن أسهمها في قناة السويس التي سرعان ما صارت شركتها دولة أخرى داخل الدولة المصرية حتى تم تأميم القناة. ولكن ذلك قصة أخرى، والمهم هو أنه خلال الأزمة المالية الراهنة في أوروبا طرحت حلول صعبة كانت كلها تشكل انتقاصا من الاتحاد الأوروبي حتى جاء من اعتمد على تاريخ الاتحاد الذي اعتمد على أن الأزمة، كما هي في اللغة الصينية تعني المخاطرة من ناحية والفرصة من ناحية أخرى.

الفرصة هذه المرة كانت في تعزيز الاتحاد ذاته من خلال إشراف البنك المركزي الأوروبي على بنوك الدول الأعضاء، وهو ما يعني تعزيزا للروابط المالية بين الدول، وتطوير الوحدة المالية والنقدية من كونها تدور حول العملة الأوروبية «اليورو»، لكي تكون حول السياسات المالية للدول الأوروبية الداخلة في منطقة «اليورو» (17 دولة) من خلال تبعية البنوك المحلية بما لها من سياسات للإقراض والاقتراض وتحديد سعر الفائدة وغيرها، للبنك المركزي الأوروبي. ولعل من الجائز أن أنجيلا ميركل المستشارة الأوروبية كانت تستحق جائزة نوبل هي الأخرى؛ لأنها بالفعل كانت المسؤولة عن إدارة دفة الأزمة المالية بطريقة تكفل من ناحية حماية الدول الأوروبية من السقوط الاقتصادي؛ ومن ناحية ثانية استغلال الظرف الحرج لتعزيز الوحدة الاقتصادية للدول الأوروبية؛ وربما من ناحية ثالثة تعزيز موقع ألمانيا باعتبارها القائدة التي بلا منازع لعملية التوحيد الأوروبية. أنجيلا إذن كانت تستحق الجائزة هي الأخرى لأن الحزمة التي اتبعتها رغم قسوتها كانت أقل قسوة من إجراءات أخرى، وتقوم على التقشف من ناحية، والانضباط المالي من ناحية أخرى، والخضوع لسيطرة البنك المركزي الأوروبي من ناحية ثالثة.

فعلت أنجيلا ميركل ما فعلته قيادات أوروبية قبلها حينما مرت مسيرة الاتحاد الأوروبي منذ تم قيام التجمع الأوروبي للفحم والصلب في مطلع الخمسينات بأزمات مشابهة كانت في كل مرة تقودها خطوات إلى الأمام، من أول توقيع اتفاقية روما حينما قامت السوق الأوروبية المشتركة، والوكالة الأوروبية للطاقة النووية، وحتى اتفاقية قيام الاتحاد الأوروبي، وما بينهما من خطوات لتحرير العلاقات بين دول الاتحاد، وتحمل انضمام دول متعددة، بما فيها تلك التي جاءت من الأسر السوفياتي إلى الأحضان الأوروبية. كانت الدورة الأوروبية تبدأ بخطوة ذات طبيعة سياسية واستراتيجية تحاول منع قيام حرب أوروبية مرة أخرى، ولكن الخطوة كانت تؤدى إلى درجة من درجات التعاون مرت مسيرته من المعاملات التفضيلية، ورفع الحواجز الجمركية، وإقامة الاتحاد الجمركي، ثم السوق المشتركة، وأخيرا العملة الموحدة. هذه المرة أضيف إلى الدورة تعميق العلاقات الأوروبية بحيث تكون في النهاية أكثر إغراء لدول خارج منطقة «اليورو» للدخول فيها، فضلا عن انضمام أعضاء جدد ربما تأخر انضمامهم بسبب الأزمة الاقتصادية.

ولكن الجائزة ربما ظلت في نفس النطاق الذي اعتادت عليه وهو «السلام»؛ ففي النهاية وأيا كانت الأزمات التي تأتي وتذهب دوراتها فإن أوروبا التي شهدت أكثر الحروب وأبشعها طوال القرنين التاسع عشر والعشرين دخلت القرن الواحد والعشرين ويمكن الجزم بأنها لن تعرف الحروب مرة أخرى. لقد كانت آخر الحروب التي عرفتها القارة هي التي جرت بصدد تفكيك يوغوسلافيا، ولكن رغم ما كان في ذلك من عمليات جراحية صعبة لخروج سلوفانيا وكرواتيا ثم الجبل الأسود وصربيا، ومولد كل من البوسنة والهرسك ومسادونيا، فإن هذه الدول جميعا، ومعهم ألبانيا، رغم الجراح العميقة، خرجت من حالات الحرب والصراع إلى ساحة البناء والاستعداد للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وفيما عدا حالة تركيا المعقدة، فإن القارة من الناحية السياسية والاستراتيجية، باتت بعيدة عن حالة الحرب، وقريبة من حالة السلام الدائم كما هو سائد بين الولايات المتحدة وكندا على سبيل المثال.

بناء على كل ما سبق فإن منح الجائزة للاتحاد الأوروبي يبدو منطقيا في هذه المرحلة من تاريخ العالم. فقد جرت العادة في التاريخ أن الأزمات الاقتصادية والمالية الطاحنة كثيرا ما كانت تولد أزمات وحروبا عالمية، بل تولد في الأغلب نزعات حمائية لدى الدول. ولكن الجاري الآن أن هناك تجاوزا بطيئا للأزمة العالمية في كل من أوروبا وشمال أميركا دون إخلال بالعولمة أو حرية تدفق الاستثمارات والبشر والسلع والبضائع عبر حدود الدول، ودون أزمات كبرى في علاقات القوى الكبرى في العالم. وحتى ما يظهر من توتر بين الصين من ناحية والدول الأوروبية والولايات المتحدة من جانب آخر، بسبب السياسات الاقتصادية للأولى، خاصة ما يتعلق بسعر العملة لديها، فإن الأمر ليس من الحدة بحيث يثير أزمة دولية كبرى. لقد كانت عملية إنقاذ أوروبا في جوهرها عملية إنقاذ للعالم، ولهذا ذهبت جائزة نوبل لمكانها الصحيح هذه المرة.