الليبروجامية.. رهاب المصطلح!

TT

عواصف المنطقة الثورية ورياح الفوضى التي اجتاحتها لم تكن مجرد احتجاجات سياسية مقنعة فحسب؛ بل كانت إعادة إنتاج لحالة الفرز لمكونات المجتمع وفق أقواس آيديولوجية وحزبية وطائفية.. وفي أجواء ملغومة كهذه، لا يمكن استقطاب الجماهير إلا من خلال آلة دعائية ضخمة تقوم بضخ «مفاهيم» ومصطلحات من شأنها تمرير أفكارها عبرها.. ظهر مصطلح «الفلول» في مصر و«أنصار النظام البائد» في تونس، و«الدحابشة» في اليمن.. إلخ.. لكن الدول التي مستها آثار «الثورات» كدول الخليج لم تكن عصية على لعبة الفرز تلك، بل كانت مصدرة لكثير من المصطلحات على طريقة «الثورة» بالكلمات ومن خلال منصات التوجيه «تويتر» ورفاقه، التي تعاني من أزمة حادة في المصداقية والمحتوى وحتى الوعي، فأصبح من السهل أن ترى من ينبري للحديث عن قضايا سيادية لدول أخرى وكأنه يخوض لعبة «الطيور الغاضبة» من جهازه الجوال.

«الليبروجامية» مصطلح مفخخ هو نتاج الصراع بين التيارات الإسلامية في السعودية التي بدأت في الفرز وإعادة إنتاج مفاهيمها الرئيسية منذ ما قبل حرب الخليج، وتحديدا عبر صراع الطوائف في أفغانستان، حيث تمايزت حركة الصحوة وظهرت انشقاقات حادة بسبب الموقف هناك ولاحقا اتسع هذا الانقسام عقب حرب الخليج بعد أن شعر أبناء الحركة الإسلامية الذين كانوا يعيشون «وهم» الوحدة أنهم إزاء فوارق ضخمة وإن كانوا جميعهم منضوين تحت اسم «السلفية» و«أهل السنة والجماعة».. إلخ تلك المظلات الفكرية التي كان يحتمي بسطوتها على الجماهير كل التيارات؛ الجهاديين وحزب التحرير و«الإخوان» والسرورية وحتى طلاب المدارس السلفية التقليدية الذين كانوا ضد «التحزب والحزبية».

في البداية كان رد فعل الإسلام السياسي عنيفا جدا بسبب الموقف من حرب الخليج، فقاموا بالرد على اتهامهم بشق عصا الجماعة ومخالفة الرموز الكبرى للسلفية المعاصرة بصك مصطلح يحيد حركة تصحيحية سلفية ليست بجديدة ولكنها لم تكن فاعلة وهي تيار «أهل الحديث» الذي رغم ضعفه وعدم حركيته أو تسييسه يعد التيار الأبرز والمعبر الأمين عن مدرسة «السلف» التاريخية التي رغم أنها لم تكن متجانسة عبر التاريخ، فإن فكرتها المركزية «الجماعة» وذم الخروج على السلطان، والولاء السياسي أحد أهم النظريات السياسية التي حافظت عليها رغم استثناءات قليلة.

لكن هذه المركزية تعرضت إلى مدامك «الإسلام السياسي»؛ و«الإخوان» تحديدا إبان فترة الصراع مع الأنظمة الناصرية والاشتراكية وظهرت مقولة «الحاكمية» كفكرة مضادة، إلا أن بقاء قوة تأثير المدارس التقليدية لم يصمد طويلا بعد أن استطاع «الإخوان» التكيف مع السلفية ثم ابتلاعها ولفظ «السياسة» منها واستبدال مقولات وأفكار سياسية معاصرة بها هي مزيج من أفكار اشتراكية وأصولية ولاحقا أسلمة الليبرالية. وكان لزاما والحال كذلك بروز نجم الأفكار الليبرالية وضمور وتلاشي أي حراك ليبرالي بحكم أن الليبرالية في نسختها العربية المشوهة والمجرمة لم تكن تعبر إلا عن كفاح فردي لا ينتظمه حزب سياسي حتى في البلدان التي تسمح بإنشاء أحزاب سياسية، كما أنها تاريخيا كانت بجانب السلطة لأسباب تتعلق بنخبوية أفكارها ونقدها لحالة المجتمعات الرافضة لأي أفكار مهما كانت صلاحيتها إذا لم تمر عبر أقانيم وأقنعة دينية ذات طابع شعاراتي.

ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وكرد فعل من داخل السلفية التي - والحق يقال - هي أكثر الحركات الدينية تطورا وتغييرا، ظهرت تيارات صغيرة جدا ومحدودة تتبني خيارا تنويريا من داخل السلفية؛ مضامين ليبرالية لكن بلغة الفقهاء، وساهم في قوة تأثير هذه المجموعات الصغيرة أنها كانت رأس الحربة الفكرية في الحرب على الإرهاب بعد أن صمت الصحويون وتردد «الإخوان»، وكانت المدارس التقليدية تعاني من ارتباك شديد بعد رحيل قامات فقهية سلفية كبرى مثل ابن باز وابن عثيمين والألباني في فترات متقاربة، ولم يكن الجيل الثاني من التقليديين يملك الكاريزما، كما أن معاول التفتيت التي أرسلها «الإسلام السياسي» بضراوة استطاعت أن «تذرر» صخرة السلفية وتشتتها إلى مجموعات متناحرة تعاني من أزمة الشرعية والمرجعية.

بعد الحادي عشر من سبتمبر بسنوات أخرى؛ هذا الانقسام أغرى الباحثين الغربيين من كل مكان بالدرس والفحص، وكان للمدرسة الفرنسية ذات الميول اليمينية قصب السبق في التقاط التفاصيل على يد مجموعة من الباحثين الذين كان يشرف عليهم المستشرق الكبير جيل كيبل، وكان منهم البروفسور سيتفان لاكروا صاحب الكتاب الشهير عن الحركة الإسلامية في السعودية الذي حمل عنوان «الثورة الفاشلة للصحوة»، لكن النسخة العربية حرفت ذلك إلى «زمن الصحوة» في محاولة تجميل للكتاب، ستيفان صك مصطلح «الليبرو إسلامي» ليصف ظاهرة التيار التنويري من قلب السلفية، إلا أن هذا المصطلح تعرض للنهب والتزوير والقلب ليصبح «الليبروجامية» في ظل صعود موجة «تويتر» وظهور تيارات ورموز جمعت بين الانتماء الحزبي أو الفكري أو العاطفي للإسلام السياسي ولـ«الإخوان»، والموقف المعارض ولو بشكل مباشر للأنظمة في الخليج، فكان من السهل كما يصنع خصومهم الالتفات على السياسي عبر الفكري ونقد السلطة من خلال نقد «الليبراليين» المغلوبين على أمرهم باعتبارهم «جامية» في السياسة.

ولكي لا ينفلت عقال القصة وهي تحتاج إلى بحوث وكتب لا مقالة؛ فإن تسمية «الجامية» أو «المدخلية» هي نسبة إلى شيخين؛ الأول محمد أمان الجامي البروفسور في العقيدة، والآخر ربيع المدخلي محدث وأستاذ جامعي، وكلاهما كان مع آخرين مؤسسين لحركة إعادة إحياء السلفية التقليدية ضد تيار الصحوة، وبشكل مباشر كان له تأثير كبير في بداية التسعينات، لكنه غاب في زحام الأحداث وتحولات العنف والإرهاب وتراجع الصحوة ذاتها.

واليوم تحاول «الطيور الغاضبة» في «تويتر» إعادة المصطلح وبعثه من جديد مع كونه اعتباطيا ولا علميا لتفسر به أحداثا سياسية وتحاول الربط بينه وبين مصطلح «الفلول» و«سلفية الولاة» عبر أزمة قرعت أبواب الدار في الكويت التي تشتعل هذه الأيام على هدير وضجيج الإسلام السياسي الذي يعاني من نشوة «انتصار» لما آل إليه وضع الرفاق في الثورات العربية.

المفارقة أن دعاة تجريم الليبرالية المنحازة للسلطة كمرتكز للاستقرار السياسي في الكويت هم أكثر من يستخدم مصطلحات ومفاهيم الليبرالية من خلال الدعوة إلى إعادة الحياة البرلمانية، بالطبع كما يفعل باقي التيار الإسلامي في طول البلدان العربية وعرضها وذلك من خلال مبدأ «المغالبة» وليس «المشاركة» وهو ما رفضه أمير الكويت بحصافة سياسية ومن خلال تحديد المسؤوليات الدستورية والقانونية في المجتمع وعدم تجاوز السلطات المحددة لمفهوم السلطة، فعملية تصحيح عملية التصويت الانتخابي أشبه بقارب إنقاذ وطني من إعادة فزر الحالة السياسية بمعايير قبلية/ إسلاموية؛ فالتحالفات الحزبية والفئوية ستجعل البلاد في النهاية تختار أشكالا ديمقراطية بمضامين آيديولوجية حزبية أو قبلية وسيغيب صوت شرائح عديدة في المجتمع الكويتي كانت تشكل لوحته الخاصة والرائعة من التعددية والتنوع.

والغريب في الأمر أن محاولة تثوير الحالة الكويتية عنوة جاء من أكثر التيارات السياسية غيابا في حرب التحرير وما صاحبها من موقف مخز ومقزز من «الإخوان»؛ الجماعة الأم، الذي جوبه بصمت بارد آنذاك من «إخوان الخليج»، واليوم يحاول الإسلام السياسي ببراغماتية فجة استغلال حالة صعود الشعارات الديمقراطية والثورات المبنية على مفاهيم ليبرالية برافعات أصولية، وما رفض تعديل الدوائر والعودة إلى أحضان الدستوري من خلال المساواة في تعديل الدوائر وفق صلاحيات أمير البلاد وعبر استخدامه المادة «71»، إلا إعادة للفتنة القديمة بلغة وخطابات جديدة.

عودا لليبرالية؛ الابن غير الشرعي الذي دائما ما تلصق به الجرائم والموبقات، فإن ما ساهم في سيلان استخدامها بأنماط وأشكال تفصل حسب حالة الفرز الفكري أو الصراع بين التيارات السياسية؛ وجزء من مشكلتها هي أزمة مصطلح ومفهوم، فهي ليست حالة قارة قابلة للقياس والتجزؤ، بل الليبرالية الغربية ذاتها تتغير، لكن أصولها القائمة على الحرية والتعددية والسوق منذ بدايات ظهورها 1919 على يد مان دي بيران الذي كان يصف الليبرالية الفرنسية، وقبل ذلك أصولها في فكر القرن السابع عشر، تدل على أنها حالة فكرية تقوم على أبعاد مختلفة من الفهم بحسب الحقل الذي تتناوله، لكن الليبرالية في المجال السياسي كانت وما زالت قائمة على الاستقلالية في الاختيار والعمل، لكنها، وهذا ما لا يفهمه خصومها، لم تكن أبدا مفصولة عن سياقها الاقتصادي؛ فلا يمكن أن تستغل مفردة الحرية والتعددية السياسية دون أن تلتزم بنتائج ذلك في العلاقة ما بين البنى الاقتصادية وتنظيم العلاقات المجتمعية.

وإذا كنا نخاصم الليبرالية ونؤسلمها ثم نجرمها ثم ننحت مصطلحات حزبية عليها بغرض التشويه؛ فإن العالم الآن مشغول بتصحيحها عبر تيارات النيوليبرالية التي ظهرت لتصحيح أخطاء اقتصاد العرض وفوضى الرأسمالية والموقف من الضرائب وخصخصة الوظائف.

الأكيد أن الإسلام السياسي في مأزق، فإذا كانت مهمته منذ ظهوره وتبنيه مشروع الصحوة سابقا/ النهضة الآن، هو تدمير شرعية كل التيارات الإسلامية والمدارس الفقهية العريقة التي وقفت ضد تسييسه الدين واستخدامه شعاراته؛ فإن أزمته اليوم أنه لا يستطيع طرح أي بديل لا يعود إلى فكرة «مدنية» السياسة والعمل السياسي، أي بعبارة أخرى إلى مفهوم الليبرالية بمنطقه العمومي العريض، فأي صيغة سياسية للتعايش السلمي بين البشر هي الآن قائمة على المساواة والتعددية واستثمار التنوع الإنساني لبناء المجتمعات، هناك بالطبع اختلاف في التفاصيل فالنموذج الأميركي غير البريطاني غير الهندي غير الماليزي غير التركي.

نحن اليوم نعيش حالة فرز واستقطاب آيديولوجي خطيرة للغاية، والشجاعة الحقيقية من المثقفين حتى أولئك الذين لديهم تحفظات أو نقد لبعض التفاصيل في الأنظمة الخليجية، أن لا يكونوا أقزاما أمام رهاب المصطلحات التي يتم تمريرها بتذاك أصولي يحاول خلط الحابل بالنابل، وبالتالي يخدم كل الأطراف المناوئة لحالة الاستقرار السياسي في الخليج.

بحسب المفكر الإنجليزي هربرت ويلز، فإن «التاريخ الإنساني في حقيقته ما هو إلا تاريخ أفكار»؛ وجزء من تشويه التاريخ الآن يتم عبر العبث بتاريخ الأفكار والتيارات والمذاهب ومنها «الليبرالية» وبالطبع «الجامية/ سلفية أهل الحديث».