عيد على جناح حمامة

TT

مع أول أيام عيد الأضحى المبارك، لم أجد هناك تهنئة أبعثها لكل من يذبحون الآن هدي الأضاحي في صعيد منى، أكثر رقة ودلالة من أن أبعثها بورقة صغيرة معلقة على رجل حمامة من حمام الحرم التي تناسلت في هذه البقعة الطاهرة منذ آلاف الأعوام وهي آمنة مطمئنة، إلا من بعض الأنذال الذين ضربوا بضمائرهم عرض الحائط، مثل مجموعة من الشباب العزاب الذين حللت عليهم ضيفا في شقتهم في مكة المكرمة يوما ما. وصعقت عندما وجدتهم يمسكون الحمامات الوديعات النائمات ليلا خلف النوافذ ثم يطبخون عليها (الكبسات) وهم يتضاحكون، وزاد من صدمتي أنهم جميعا كانوا يدرسون في كلية الشريعة، لهذا تركتهم غير آسف في رابع يوم بعد أن أنهيت شغلي الذي أتيت من أجله، ولم أشاركهم إلا بأكل الرز فقط لا غير، والله على ما أقول شهيد.

والحمام كما جاء في الأثر: «هو طائر لطيف في شكله، أنيس في نوعه، جميل في صورته، نظيف في لباسه، يمثل في عائلته المحبة الحقيقية والشفقة الحسية، فإنا نرى فيه درسا عائليا كبيرا، نرى الذكر منه مع أنثاه يعملان لحياتهما وحياة عائلتهما عمل المجدين المجتهدين، حتى إذا انتهيا من واجبهما الأهلي تفرغا إلى حياتهما الزوجية؛ فتراهما بين توامق وتعاشق وتعانق، لا ينفصلان إلا ليتصلا، ولا يفترقان إلا ليجتمعا، في جلابيب جمال، وأساليب دلال، مما لا يرى له مثال في زوجين من غير نوعهما على كل حال». الواقع أنني بعد أن قرأت هذا الوصف المعبر، تمنيت من كل قلبي لو أن ربي قد خلقني ذكرا من الحمام، ومكنني من حمامة (رقاصة)، خفيفة الوزن والروح والعقل معا.

وزاد من احترامي وإعجابي للحمام عموما، عندما تذكرت دوره الكبير في أسر (لويس التاسع) ملك فرنسا عندما دخل دمياط سنة 1270م وسار بجنده إلى المنصورة، فأخذ حاكم مصر (الملك الكامل) خبره بواسطة حمامة زاجلة، فسير إليه جيوشه لوقته فأوقفته عند حده، وكان ما كان من انهزام جنوده عند المنصورة وأسر لويس وسجنه بها إلى أن تم الصلح بينه وبين ملك مصر، فأطلقه وسافر إلى تونس ومات بها، وفي حبسه يقول أحد الشعراء:

قل للفرنسيس وإن أنكروا

حبس لويس في مقال صحيح

دار ابن لقمان على حالها

والقيد باق والطواشي صبيح

ولو أنني كنت وقتها من جنود الملك الكامل، لأقمت لتلك الحمامة تمثالا، وفعلت مثلما فعل البريطانيون، عندما أقاموا صرحا وتماثيل لكل الحمامات الزاجلة التي نقلت الرسائل وساعدتهم في الحرب العالمية الثانية. وقد سبق لي أن تشرفت بزيارة مقبرة تلك الحمامات، ووضعت وردة بيضاء على ذلك الصرح المهيب.

لا أريد أن أطيل عليكم، وأترككم الآن في عيدكم السعيد إن شاء الله، لأذهب وأستمتع بعيدي على طريقتي الخاصة، التي قد لا تعجب البعض.

[email protected]