بناء الإنسان هو الحل

TT

«ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن..»، لا أدري بأي العبارات أوصّفه. زمن تتمزق فيه سوريا وطنيا وطائفيا ومذهبيا، ويهرب فيه مئات الألوف من أبنائها خارج ديارهم. زمن يعيش فيه اللبنانيون، وهم طلاب حياة وهناء، جوا من التوتر والخوف الدائم مما يخبئه الغد من غدر. زمن ينقسم فيه الفلسطينيون على بعضهم البعض أمام العدو الذي يحتل ما تبقى من ديارهم. زمن تكاد فيه التفجيرات الإرهابية تكون الحدث اليومي الأبرز في حياة العرب والمسلمين من إسلام آباد إلى تمبكتو. زمن يكفر فيه السلفيون الإسلاميين، والإسلاميون كل من هم على غير فهمهم للدين والإيمان، وترتفع فيه أصوات «الجهاديين» داعية إلى إعلان الحرب على الغرب وعلى كل من لا يقول قولهم، وهم لا يجهلون أن هؤلاء «الكفار» يملكون من الأسلحة النووية والصاروخية ما هو قادر على تدمير أي مصدر يشكل خطرا على أمنهم ومصالحهم الحيوية.. وبكبسة زر.

لقد قيض لي، في حداثتي وشبابي، أن أحيا أياما مشرقة ومفعمة بالآمال: يوم توحد اللبنانيون، مسلمين ومسيحيين، في نوفمبر (تشرين الثاني) 1943 في وجه سلطات الانتداب الفرنسي، فكان الاستقلال والميثاق الوطني. يوم كان فارس الخوري، المسيحي الآتي من جبل لبنان، يرأس الحكومة والمجلس النيابي في سوريا بشكل طبيعي ولا يعترض أحد على ذلك. يوم ولدت «جامعة الدول العربية» وشعر الناطقون بالضاد بأنهم عادوا إلى خريطة العالم بهويتهم القومية ووجودهم التاريخي. يوم الوحدة المصرية - السورية التي اعتقد الكثيرون معها أن «صلاح الدين» قد عاد. يوم صفقنا جميعا للمقاومة الفلسطينية قبل أن تغرق نفسها في النزاعات الطائفية اللبنانية ويرى أحد قادتها أن «الطريق إلى حيفا يمر بجونية..».

ولقد عشت، كغيري من اللبنانيين والعرب والمسلمين، أياما سوداء: يوم نكبة فلسطين عام 1948، وهزيمة يونيو (حزيران) 1967، والانقلابات العسكرية التي توالت على سوريا والعراق واليمن والسودان ولا ننسى باكستان، والحرب الإيرانية - العراقية، واحتلال صدام حسين للكويت، والاحتلال الأميركي للعراق، والحرب الأهلية في لبنان التي ما زالت آثارها تثقل على اللبنانيين حياتهم.. وصولا إلى ما سمي بالربيع العربي، وهو انتفاضة شعبية مبررة ضد التسلط الفردي الطويل على الحكم ومن أجل الحرية والكرامة والعمل، صفق لها العالم طويلا قبل أن يبدأ التساؤل عن مآلاتها.

أسئلة عدة يطرحها كل إنسان عربي على نفسه بعد أن يستعرض كل تلك الأحداث المفرحة والمحزنة.. تلك الأيام المشرقة والمؤملة وعكسها من الأيام المحزنة والتعيسة. هل صحيح أن كل ما حدث كان رد فعل على قيام الكيان الإسرائيلي في قلب العالم العربي؟ أم كان سببه سياسة الهيمنة الغربية، والأميركية خاصة، على الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي، كما يصر الأصوليون الإسلاميون على القول؟ أم هي الدعوات والأحزاب العقائدية اليسارية والقومية، فالإسلاموية التي ارتمت الأجيال العربية الصاعدة في أحضانها تباعا بحجة أن الوطنية والديمقراطية غير كافيتين «لتوحيد الأمة».. و«استعادة فلسطين».. والصمود في وجه الاستعمار والعدوان الغربيين؟.. أم تراها رواسب القبلية والطائفية والمذهبية مختلطة بالصراع الطبقي هي التي شكلت هذا «الكوكتيل» السياسي المتفجر الذي أوصل الشعوب العربية والإسلامية إلى ما وصلت إليه بعد قرن من نهضتها واستقلالها؟

لست أدري!!.. قد تكون كل تلك الأوضاع والعوامل والظروف الراهنة، المتوارث منها والمستجد، هي التي شكلت تلك القنابل العنقودية السياسية والاجتماعية التي لم يتوقف تفجرها في العالمين العربي والإسلامي منذ نصف قرن ونيف. إنما الأكيد هو فشل معظم الثورات والانقلابات والعقائديات التي حكمت القسم الأكبر من هذين العالمين في تحقيق أماني شعوبها، وفي النهضة بالدول والمجتمعات إلى مصاف كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة، ولا نقول السويد أو سويسرا أو فنلندا.

واليوم ترتفع في سماء هذين العالمين رايتان: الدين والديمقراطية. وراية ثالثة تحاول الجمع والتوفيق بينهما. ولا أحد يستطيع، اليوم، الجزم بانتصار أي من هذه الرايات. لكن الخاسر هذه المرة هو من يراهن على الشعار والآيديولوجيا كحل لكل المشاكل وليس على الإنسان. أما المرشح للانتصار فهو من ينطلق من حقوق هذا الإنسان ويصونها ويستهدف تحسين شروطها. هو من يركز على جوهر الدين وقيمه ومبادئه الإنسانية، كالإيمان والخير والعدالة والتسامح والمساواة وطلب العلم والاجتهاد والعمل والتضحية، وليس على المظاهر والشكليات والتقاليد المتوارثة.

إن معظم الشعوب المتقدمة صناعيا واجتماعيا والمستقرة سياسيا مرت، هي أيضا، بسنوات بل بقرون من الحروب والتقاتل الطائفي أو العرقي أو الوطني. كما عرفت محنا وأزمات كتلك التي تعيشها الشعوب العربية والإسلامية، اليوم. ولم تتوصل إلى ما توصلت إليه اليوم إلا بعد أن عثرت على الطريق الصحيح لنهضتها وتحررها وتقدم مجتمعاتها. وهو الطريق الذي يبدأ وينتهي بالإنسان وحقوقه وحريته. وهو طريق يفترض عقلية جديدة ونظام تعليم جديدا وتربية منزلية ومدنية جديدة، وليس مظاهرات في الميادين والشوارع، أو ديمقراطية شكلية وانتخابات تقرر نتائجها العواطف والغرائز والانفعالات السلبية.

«فمن هنا نبدأ.. وإلا فلن نبدأ»..

والانتصار على «أعدائنا»، أيا كانوا، يبدأ بالانتصار على أنفسنا.