العودة للمياه الراكدة!

TT

لدينا أحداث سياسية متعاقبة وتفصيلية وصغيرة، لكن لا جديد يذكر ولا قديم يعاد على مستوى فهمها وتحليلها بمعنى آخر، فإن «الثورات» لم تنتج فكرا يسائلها ويجادلها بل كان الأمر مشابها لما حدث في الرضّات المفصلية في التاريخ الإسلامي والعربي الحديث، حيث بعد كل تحول تاريخي يتم العودة للمياه الراكدة، وكأن ذواتنا الجمعية تفزع من التغيير وتبعاته.

كان الاستعمار هو الحدث الذي أعقب كل الجدل حول سؤال الذات في الفكر العربي وتم التعامل معه وفق آليات كثيرة من تلفيقية الأفغاني ومحمد عبده إلى استقلالية الأحزاب العلمانية الناشئة إلى إعادة الالتفاف حول الهويات الصغيرة كما هو الحال في تراجع الخط البياني منذ لحظة النهضة الأولى وحتى نشأة حسن البنا الذي عقب رشيد رضا الذي كان الخيط الرفيع الذي يصل بين مرحلة النهضة ونشأة «الإسلام السياسي» على يد حسن البنا ورفاقه الذين ورثوا جدلية الإسلام والعصر السابقة ليطورها إلى حصرية «الحل الإسلامي».

لاحقا كان الصدام الداخلي بين التيارات السياسية هو ما فتح الأسئلة على سؤال السلطة وولدت كل جماعات العمل المسلح كرد فعل تجاه سؤال الذات ضد التغريب هذه المرة الذي لم يكن استعمارا، بل كان تهمة تسلب شرعية الأنظمة الحاكمة، ومنها ولدت الموجة الثانية من التيارات المسلحة العنفية التي كانت تريد التغيير بالقوة، وبالتالي أنتجت معها أفكار التغيير، فلم يعد التلويح بحتمية «الحل الإسلامي» - شعار المرحلة السابقة - كافيا للحضور على الأرض؛ بل ظهرت دعوات لقلب الأنظمة السياسية والخروج عليها باعتبارها فاقدة للشرعية وغير داخلة في مسمى «المجتمعات المسلمة» بعد أن تم توسيع مفهوم «دار الإسلام» وإعادة إنتاجه ليقتصر فقط على الجغرافيا التي كانت تحكم باسم الإسلام ولم تكن تلك المساحة لتسع سوى مناطق التوتر والقتال.

لاحقا جاءت نهاية الصدام العنيف والدموي بين التيارات المسلحة والمجتمعات الإسلامية من جهة، تلك المجتمعات التقليدية التي كانت ماضية في ممارسة إسلامها غير المسيّس، وبين الأنظمة التي تحولت من مناوئة للإسلام السياسي إلى مهادنة له وربما مزايدة عليه في بعض شعاراته بهدف الالتفاف على موجات «الخروج من النص» العربي التقليدي عبر التيارات اليسارية والشيوعية وحتى القومية التي لم تأخذ مداها وعمقها الاجتماعي، إلا أنها وبتحالفات مع بعض التيارات الثقافية وربما بعض العسكر وكثير من الدعم السوفياتي السخي كانت تشكل حضورا نخبويا ضئيلا؛ سرعان ما تم الالتفاف عليه بتحالف القوى الأخرى الأنظمة والإسلام السياسي والتقليديين.

تطورت الهدنة بين الطرفين وعم الربيع الإسلاموي لتنشأ في نهاية السبعينات موجة «الصحوة» وهي مظلة رمزية كانت تجمع كل فئات الإسلاميين من بداية التقليديين إلى أقاصي التطرف المسلح والانعزال، هذا التداخل في المسميات والشخوص والرموز والأفكار هو ما حرّك المياه الراكدة لصالح الإسلام السياسي للأبد، فكانت مرحلة الصحوة إيذانا ببدء مرحلة جديدة من التحولات الاجتماعية الهائلة ليس فقط على مستوى الأفكار السياسية التي كانت الأنظمة متشددة في مراقبتها بحكم صدمة المرحلة المسلحة، ولكن على مستوى التفاصيل الصغيرة في السياق الاجتماعي والاقتصادي والهويّاتي، نشأ كما يقال «علم كلام» جديد، وتم بلورة كل أفكار المرحلة السابقة لتصبح أفكار نهضة محمد عبده مجرد بدايات جريئة للاعتدال الإسلامي وتصبح نشأة الإخوان المعزولة عن مكونات المجتمع الإسلامي التقليدية نوعا من الإفاقة بعد الغفلة ويتم إدانة كل المرحلة الإسلامية التقليدية السابقة إما بحجة أنها مهادنة وغارقة في التصوف والسلبية، أو أنها غافلة عن الواقع ومشغولة بالتفريعات الفقهية القديمة على حساب روح العصر كما هو الحال في حجة الصحوة النقدية للحالة الإسلامية آنذاك.

التحول الحقيقي لم يكن إلا على مستوى الأفكار؛ فلم يدخل الناس الإسلام بعد أن كانوا به كافرين، ولا الحماسة الدينية ازدادت عن مرحلتها السابقة، وإنما تم الإمساك بمفاصل المجتمع ومصادر التلقي فيه، تغيرت خطب الجمعة وظهرت طبقات جديدة فاعلة في المجتمع، حيث تراجع العالم التقليدي وأصبح معزولا ببعض طلابه النخبويين وظهرت طبقة الدعاة وهي مرتبة دينية مبتدعة بجدتها ولم تكن كباقي المناصب الدينية الرسمية وغير الرسمية امتدادا لسياقها التاريخي منذ عهد الإسلام المبكر، وتلك قصّة في غاية الأهمية إذا ما علمنا أن الطبقات الجديدة التي ظهرت «الدعاة»، و«المفكر الإسلامي»، و«المجاهد» و«المحتسب».. ساهمت في تصدعات اجتماعية عميقة، كما أنها اكتسبت الكثير مع الوقت بسبب سهولة الانتساب لهذه الطبقات التي يمكن الانضمام لها دون شروط ومواصفات عالية.

لاحقا تراجعت الصحوة عن حضورها السياسي حد التلاشي، لكنها لم تفقد خصوبتها في إنتاج المزيد من الأتباع والمتعاطفين إلى الحد الذي تم فيه حصر أشكال وأنماط التدين بخطابها الفكري، وتلك معضلة أخرى، بات كل التراث الإسلامي والمدارس الفقهية الغنية بالكثير من الرؤى والأقوال والبناء الفكري المنظم رهينة اختزال صحوي شديد لا يعدو أن يكون انتقاء من المذاهب أكثر ملاءمة لمنظومته المعرفية حديثة التأسيس وهي في مجملها تشدد في الفنون والمرأة وتساهل في الجانب الاقتصادي إلى جانب مزيج من الآراء المتنوعة من مدارس كثيرة في الإيمانيات والمعيشيات من المسائل اليومية.

كان لتراجع الصحوة سياسيا دور في التمهيد لأسئلة الحادي عشر من سبتمبر التي فجرّت الكثير من الملفات الساخنة وكان من أهمها ملف الإسلام السياسي وعلاقته بالتركيبة الاجتماعية للبلدان العربية والإسلامية، ولاحقا تم عزل التيارات الإسلامية وتصنيفها بناء على موقفها من العنف والآخر والعمل السلمي وهي في مجملها تصنيفات ذات طابع سياسي مضلّل، لأنها تلغي البناء الفكري الجديد الذي بدأ في نهاية النهضة وتقوى بنشأة الحزبية وتطور واستقل مع ظهور الصحوة، بل أزعم أن المقولات السياسية فيه في معظمها مقتبسة من مزيج من الأفكار التقليدية لنظريات الإمامة السنية ومتأثرة بأفكار مستترة تسربت من ولاية الفقيه عبر رضّة الثورة الإيرانية وأيضا بأفكار كونية تمت أسلمتها بعد أن نزع منها دسم سياقها الغربي تماما.

وبإزاء هذه الضحالة السياسية ما زال حضور الإسلام السياسي مهيمنا في نسيج المجتمعات العربية والإسلامية بسبب قوة خطابه الاجتماعي وتركيزه على مسائل «الهويّة» التي من السهل تغذيتها عبر أجواء الصراع مع الداخل والخارج.

بعد الثورات وهي سياق منطقي الوقوع وإن كان التوقيت فاجأ الجميع، كان يفترض أن يصاحب تحول «الإسلام السياسي» من فكر المعارضة إلى السلطة، تحولات فكرية عميقة وخطاب سياسي جديد ومستقل يتم صياغته على أساس المرحلة الجديدة، لكن الدخول في أتون الصراعات من جديد، وتأكيد الأحقية بالسلطة ساهم في العودة إلى نفس أزمات النشأة.. حضور اجتماعي طاغ بأفكار هشة ونيئة لم تطبخ على نار الواقع على مهل، وبالتالي العودة إلى المياه الراكدة.