هل انتهى الحلم الأوروبي؟

TT

تقرير المفوضية الأوروبية لهذا العام حول مسار العلاقات مع تركيا والخطوات المنجزة على طريق العضوية الكاملة التي تنتظرها أنقرة منذ أكثر من نصف قرن، لم يخيب آمال قيادات «العدالة والتنمية» فحسب؛ بل أغضبها إلى درجة دفعتها لشن هجوم عنيف قاده كبار أركان الحزب الحاكم على الذهنية التي تتحكم في هذا التكتل التي تصر على قطع الطريق على الأتراك رغم كل الجهود التي بذلت حتى اليوم على طريق التغيير والتحديث والإصلاحات الدستورية والسياسية والاجتماعية التزاما باستراتيجية الحصول على مقعد دائم في قطار بروكسل.

الصدمة التي تسبب فيها هذا التقرير المطول والمفصل الذي يعتبر بمثابة خيبة أمل تركية جديدة في الرهان على التحاق قريب لهم بالنادي الأوروبي، كانت قاسية وشديدة إلى حد أن الأتراك لن يستيقظوا من تأثيراتها بسهولة. الارتدادات الأولية جاءت على شكل رفض كامل للتقرير شكلا ومضمونا كما فعل البعض، أو تجاهل لوجوده، كما اختاره البعض الآخر سببا لإعلان الحرب على الواقفين من ورائه الذين يكيلون بمكيالين في موضوع التعامل مع مطلب العضوية التركية بالمقارنة مع ما قدم من تسهيلات لأهم الخصوم والمنافسين مثل اليونان وقبرص اليونانية وكثير من جمهوريات أوروبا الشرقية التي انسلخت عن الاتحاد السوفياتي بكل خصائصه الآيديولوجية والسياسية والثقافية وقررت بين ليلة وضحاها أن تتبنى الليبرالية وحقوق الإنسان والحريات الفردية بالمقياس الأوروبي للأمور.

اغمان باغش الوزير المكلف بالشؤون الأوروبية هاجم الاتحاد الذي يصغي لبعض المتشددين والمعارضين لقبول تركيا، لكنه أكد أن أنقرة لن تلجأ بمثل هذه البساطة لرمي المنشفة أرضا وتتراجع عن المنازلة من أجل تحقيق ما تريد إلا إذا كان الاتحاد الأوروبي يناور ويماطل في التعامل الجدي مع الإنجازات الكبيرة التي حققتها تركيا في السنوات العشر الأخيرة. باغش لم يتردد في القول أيضا، ردا على رئيس لجنة الموازنة في البرلمان الأوروبي الذي أشار إلى أن كتاب العضوية التركية قد أغلق، بأن حرية الإصغاء إلى حماقات البعض مسموح بها أيضا في تركيا.

الخارجية التركية من ناحيتها انتقدت هذا التقرير اللامتوازن والمجحف بحق تركيا والذي يتجاهل كثيرا من الإصلاحات الداخلية في كل المجالات، لكن بروكسل تقول إن أنقرة تبالغ في ردود فعلها حيال التقرير وإن إيجابيات عديدة تمت الإشارة إليها جنبا إلى جنب مع سلبيات كثيرة ما زالت تنتظر من يزيحها من درب العضوية الكاملة. وعود الدستور الجديد التي أطلقتها حكومة أردوغان ما زالت تراوح في مكانها؛ لا بل حتى الإصلاحات الدستورية الأخيرة لم يتم تطبيقها كلها بعد، ومطالب الأقليات والموضوع الأرمني والمسألة الكردية قضايا لم يتم التعامل معها كما يجب، وحاجز العشرة في المائة الانتخابي ما زال ينتظر رفعه، ونواب انتخبوا قبل عامين ما زالوا في السجون ينتظرون الإفراج عنهم.. هذا إلى جانب إصلاحات أساسية في مسائل الحريات الفكرية والإعلامية والسياسية وعد بتنفيذها قبل سنوات لكن الخناق يضيق يوما بعد الآخر؛ كما تقول المعارضة وأوروبا نفسها.

المفوضية رحبت بجهود الحكومة في قضايا إعلان الحرب على التعذيب والمعاملة السيئة في السجون ومراكز التوقيف حتى عام 2007، لكنها انتقدت تراجع الإصلاحات في هذا المجال في السنوات الأخيرة.

ربما النقطة الإيجابية الأهم التي أفرحت الأتراك كانت إشادة التقرير بالسياسة التركية في الموضوع السوري لناحية الوقوف إلى جانب المطالبين بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وفتح الحدود أمام آلاف اللاجئين في أهم امتحان إنساني تخوضه تركيا في هذه المرحلة.

مشكلة تركيا الأهم هي أنها لا ترى بنية وطريقة عمل المنظمة الأوروبية وتتعامل مع خصائصها ومواصفاتها بالمنظار الذي تريد، وأن البعض في أنقرة يحاول أن يوحي بأنه قادر على فرض قواعد اللعبة التي يريدها هو على هذا التكتل متجاهلا تمسك الاتحاد بمطالبه وتوصياته التي لن يتخلى عنها تحديدا لتركيا التي تخيف البعض ببنيتها وتركيبتها السكانية والعرقية والدينية والاجتماعية وحيث ما زال البعض في تركيا يتحدث عن استمرار مخططات تفتيت وتقسيم تركيا؛ المشروع الغربي الماثل على وليمة الذئاب التي تستهدف المنطقة.

الأتراك كانوا يحملون الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مسؤولية رفض الطلب التركي، لكنهم هذه المرة يطاردون الرئيس الحالي لمجموعة القبارصة اليونانيين الذين نجحوا في تجميد العلاقات بين أوروبا وتركيا طيلة فترة وجودهم على مقعد الرئاسة.

أردوغان دعا الأوروبيين عام 2005 لدعم تركيا وفتح الطريق أمامها في مسألة العضوية، لكن أصواتا كثيرة مقربة من الحكم في تركيا تلوح اليوم بكوبنهاغن آخر بمعايير تركية. البعض يقول إن تركيا كانت قبل 7 سنوات تركض باتجاه بروكسل لكنها ومنذ 5 سنوات تهرول لتختار المشي هذه المرة في العامين الأخيرين، وربما هذا هو أكثر ما يغضب أوروبا ويقلقها. 35 فصلا من وثيقة الانضمام لم يحسم سوى 3 فصول فيها، و8 فصول طرحت للنقاش لكنها جمدت منذ سنوات.

أصوات في أنقرة تقول إن العالم ليس عبارة عن المجموعة الأوروبية وحدها وإنه كلما حاولنا الاقتراب من أوروبا لمشاركتها اللعب، حاول أحدهم أن يرمي الكرة خارج الملعب بسبب انزعاجه من وجودنا.

أحد الخبثاء يعلق ساخرا: كان التقرير السنوي للمفوضية الأوروبية حتى هذا العام يصدر تحت عنوان «التقدم التركي على طريق العضوية الكاملة»، لكنه بعد الآن سيكون تحت عنوان «التراجع التركي عن مطلب العضوية».

اقتربت نهاية الحلم، فالأتراك يريدون أن يستيقظوا، وأوروبا تريد إيقاظهم أيضا.