رغم خيبة الأمل.. أوباما يظل الخيار السليم لأميركا والعالم

TT

يُقضى على المرء في أيام محنته

حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن

(الأمير يحيى بن علي الأحسائي)

يقرر الناخبون الأميركيون غدا من سيقيم في البيت الأبيض، ومن يفضلون أن يأتمنوه على مصائرهم ومعها مصائر مليارات البشر، خلال السنوات الأربع المقبلة.

بالنسبة لكثيرين، داخل أميركا وخارجها، لا تستحق معركة يوم غد الجدية التي يتعامل معها أهل السياسة وعالم المال، لأن إخفاق الرئيس باراك أوباما في إحداث «التغيير» الذي وعد به في حملته الانتخابية عام 2008 سلط الضوء على أمرين اثنين:

الأول أن أوباما قصر في تحقيق ما كان يصبو إليه، وجاءت وعوده جوفاء... دغدغت مشاعر الناس وكسبت أصواتهم من دون أن تكون لديه القدرة على تحقيقها أو الاستعداد لتحقيقها.

والثاني أن الناخب الأميركي لا يدرك تماما مستوى تحكم كتل المصالح، ولا سيما الكتل المؤثرة الكبرى، وبالأخص في قطاعات المصارف والصناعة (ولا سيما السلاح والنفط) والجماعات الدينية المحافظة، بالقرارات السياسية. وبالتالي، يصمت تجاه عملها على تجييش «اللوبيات» وابتزاز المرشحين و«تزييت» ماكيناتهم الانتخابية و«إحراق» أولئك الذين يعترضون سبيلها. وبناء عليه، كان هناك قدر كبير من السذاجة – أو قل البراءة – عند أولئك الذين صدقوا وعود «التغيير».

في الحالة الأولى يقع اللوم على باراك أوباما إما لتقصيره أو لقطعه وعودا كان يدرك سلفا أنه عاجز عن تحقيقها، وهنا يستحق تماما تراجع حصته من الأصوات بعد انتصاره التاريخي الحاسم الضخم في انتخابات الرئاسة عام 2008. وتجدر الإشارة هنا أنه يومذاك ظفر بأصوات ولايات ما كان يحلم بكسبها مرشح رئاسي ديمقراطي منذ عقد الستينات في القرن الماضي، على رأسها إنديانا ونورث كارولينا وفيرجينيا.

أما في الحالة الثانية فيقع اللوم على الناخب الأميركي الذي يجهل حقيقة «ديمقراطيته» المنقوصة التي تعطي كتل مصالح معينة قدرات هائلة تتيح لها التأثير على الحياة السياسية بسلاحي المال والإعلام. كذلك لا يمارس قطاع واسع من الناخبين واجب محاسبة أهل السياسة ومساءلتهم على الشعارات البراقة التي يطلقونها، بل إنه في بعض الأحيان يريد الشيء ونقيضه، وفي أحيان أخرى يريد النتيجة من دون التفكير بالخلفية، ولا يربط بين السبب والمسبب عنه.

والواقع أن «ضعف الذاكرة» عنصر أساسي في الحياة السياسية الأميركية. وفي هذا المجال يمكن سوق مثال نسيان الناخبين الأميركيين نجاح الرئيس جورج بوش الأب في تحرير الكويت خلال بضعة أشهر من وصول شعبيته إلى أرقام غير مسبوقة؛ لأن فترة غير قصيرة مرت على تلك الحرب. ولو كانت الفترة أقصر بين الانتصار في مطلع عام 1991 وانتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 1992 لربما كان بوش ربح المعركة وخسر منافسه بيل كلينتون. لكن الوضع الاقتصادي السيئ وتلاشي بريق الانتصار العسكري تضافرا في هزيمته.

أيضا ينسى الناخبون، في خضم الجدل المحتدم عن العجز المالي المتراكم، أن الإدارات الجمهورية المتعاقبة – وعلى رأسها إدارة رونالد ريغان – هي التي ارتفعت إبان حكمها معدلات العجز بالمقارنة مع فترات حكم الإدارات الديمقراطية. لماذا النسيان؟ لأن الناخب الأميركي بصفة عامة لا يهمه السبب بقدر ما تهمه النتيجة، ولذا يسهل على المرشح الجمهوري – أي مرشح اليمين – رشوته بالخفض الضريبي ووعده بتخليصه من عبء تحميله أكلاف الإنفاق الحكومي... من دون أن يصارحه بأن سياسة اللاضوابط واللارقابة سيدفع المجتمع فاتورتها لاحقا. وهذا بالضبط ما حصل منذ أواخر عام 2007 عندما أجبرت الأزمة الاقتصادية الحادة الحكومة الاتحادية حتى في عهد جورج بوش الابن – اليميني جدا – ثم في عهد أوباما، على التدخل مباشرة بمال الدولة لإنقاذ مؤسسات إقراض عقاري وشركات صناعية ومؤسسات مالية كبرى تداركا للانهيار الكامل في «وول ستريت».

الثقافة السياسية الأميركية، التي تؤمن بالحرية الاقتصادية المطلقة بلا ضوابط، ترفض الاعتراف بوجود عيب بنيوي في الرأسمالية الجشعة المتفلتة من الضوابط، ولا تريد أن تفكر بأهمية الحصافة الاقتصادية. والساسة الجمهوريون مثلهم مثل رجال المصارف وعتاة الرأسماليين، يفكرون على المدى القصير بدلا من التفكير الاستراتيجي البعيد المدى. ويتهربون من الإقرار بالعلاقة الوثيقة بين ارتفاع كلفة الإنتاج في أميركا وتراجع قدراتها التنافسية في الأسواق العالمية.

هذه حقيقة يتهرب منها الساسة الجمهوريون... وأيضا «وول ستريت» الذي يدعمهم. ورشوة الناخبين بالخفض الضريبي وتقليص الإنفاق الحكومي التي تشكل جوهر برنامج المرشح الجمهوري ميت رومني... ليست جديدة، فهي نفسها التي روج لها ريغان وبوش الأب وبوش الابن من قبل... جنبا إلى جنب مع الهراوة الغليظة في السياسة الخارجية.

لذا، لا مصلحة لا لأميركا ولا للعالم بتجربة المجرب. ولا مصلحة لأميركا ولا للعالم بمرشح آخر يشكل فعليا «واجهة سلطة» في حين أن السلطة الحقيقية مستترة، قابعة في مكان آخر، غير خاضعة للمساءلة والمحاسبة. فلا رونالد ريغان كان الحاكم الفعلي لأميركا خلال سنوات حكمه الثماني، ولا «البوشان» الأب والابن إبان وجودهما في البيت الأبيض. وهذه المرة لن يكون ميت رومني، إذا فاز غدا، حاكم أميركا الفعلي.

الحاكم الفعلي والحقيقي سيكون الكتل المصلحية المستترة... المتحالفة اليوم مع ظاهرة يمينية متطرفة، متخلفة فكريا، وخطرة أمنيا وإنسانيا... اسمها جماعة «حفلة الشاي».

إذا ربح رومني، الذي هو في الأساس سياسي متحضر ومعتدل، فإنه سيكون رهينة عند اليمين الجمهوري المتطرف الذي يطل برأسه اليوم بالمرشح لمنصب نائب الرئيس بول ريان. وكان الجمهوريون قد اكتشفوا قبل بضعة عقود، عندما تحول حزب العظيمين أبراهام لنكولن وثيودور روزفلت إلى حزب يميني متطرف، الحاجة إلى لائحة انتخابات رئاسية «متوازنة» Balanced Ticket... تضم وجها معتدلا ووجها متطرفا، الأول لطمأنة الناخبين غير الملتزمين، والثاني لتمثيل الكتل المصلحية الطاغية عليه والمتحكمة به. وحقا، سار الجمهوريون في هذا الطريق حتى اليوم. وبالتالي، كان لا بد من وجود ريان المتطرف مع رومني المعتدل، كما كان من الضروري أن يكون دان كوايل المتطرف مع جورج بوش الأب المعتدل، وديك تشيني المتطرف مع جورج بوش الابن... الـ«لا شيء»!

غدا سيعلن الأميركيون خيارهم من دون أن يكون لباقي العالم، المتأثر بذلك الخيار، أي رأي...

ولكن، برغم خيبة الأمل من التغيير الطفيف نسبيا الذي أنجزه أوباما، من المفيد القول إن أميركا اقتصاديا اليوم في وضع أفضل بكثير مما كانت عليه قبل أربع سنوات، وإن مشاعر أوباما إزاء المواطن العادي أفضل بكثير من منافسه الجمهوري، وإن حزبه الديمقراطي برغم طبيعته الفضفاضة اللاعقائدية أقل عدائية للعالم وثقافته وتعدديته.

لهذه الأسباب، أرجو أن يمنح الأميركيون فترة رئاسية ثانية، حتى لو ما كانوا متأكدين أنه يستحقها.