أحزاب الأنابيب السياسية!

TT

كل شيء باق على حاله، وربما يتجه نحو الأسوأ في زمن ما بعد الثورات، اقتصاديات منهارة، أحزاب سياسية لها جذورها التاريخية تتجه نحو الانقراض بالتحلل الذاتي أو بفعل التكلس السياسي، ونخبة ثقافية تزداد عزلة وتضيف بعض رموزها إلى جانب العزلة عقد تحالفات هزيلة مع الإسلاميين.

إذن سيد المشهد الإسلاميون، وتحديدا الإسلام السياسي الذي غاب لعقود عن فاعلة المشهد السياسي كمؤثر، وإن حضر كمعارض أحيانا وكخارج عن المنظومة السياسية مناوئ لها، لكن الحضور الجديد جاء عبر بوابة «الديمقراطية» المفهوم الذي أعاد الإسلاميون إنتاجه وإفراغه من محتواه، وليس فقط أسلمته ضمن حدوده المفاهيمية في أدنى مستوياتها التعددية الحرية المشاركة لا المغالبة.

طبعا تحدثت وتحدث غيري طويلا عن أنها أزمة هوية سياسية، وليست مجرد أي قدر من العمل السياسي يمكن للإسلاميين أن يقبلوا به، لكن الحديث عن ذلك هو جزء من نقد الظاهرة السياسية للإسلاميين، وليس الأمر بمجد ما داموا تسنموا بالفعل مقاليد السلطة في أكثر من بلد، إضافة إلى تسيدهم المطلق للحضور الاجتماعي، وإمكانية اكتساح أي انتخابات جزئية أو مرحلية قادمة في أي بلد إسلامي، بما فيه الدول التي لم تمسها الثورات، ومنها الخليج.

إذن التعامل السياسي مع فئة بهذا النفوذ ليس في منازعتها في «تقيتها» السياسية ورفعها لشعارات سياسية إصلاحية أو حقوقية بينما يتعارض ذلك مع برامج ومفاهيم وأساسيات تتصل بطبيعة «الشمولية» التي تتسم بها الأحزاب الدينية متى ما مارست العمل السياسي دون فصل ما هو دعوي وديني عما هو سياسي ومرحلي، لأن حالة الالتباس هذه ستظل على حالها وربما تزداد عمقا إذا ما تحولت إلى أحزاب سياسية أرضية، أو يقال طينية تكافح على الأرض دون أن تستمد مشروعيتها من شعارات دينية، كما هو الحال الآن، حيث أحزاب إسلامية، وبالتالي خصومها عادة ما يصنفون كأعداء للإسلام، بينما هم خصوم للرؤية السياسية تحديدا للإسلاميين.

الآن في مصر وتونس واليمن، وحتى في دول لم تتعرض للثورات، تولد أحزاب إسلامية جديدة هي في أغلبها تكتلات علمية ودعوية سلفية رأت أن الصيغة القديمة للتحالف مع السلطة عبر «شرعية» ولي الأمر، لا يمكنها من الحصول على نصيبها في المجتمع بحكم تغير قواعد اللعبة من امتلاك الحقل الديني عبر شرعية التحالف مع السياسي إلى صناعة القرار السياسي مباشرة عبر السلطة، وهو الأمر الذي قرر السلفيون - بل حتى الجهاديون رغم مكابرة هتيفة الإسلام السياسي من اليسار وبعض المتحولين - أن يخوضوا غمار السياسة دون وساطة، وهكذا الآن تتناثر أحزاب إسلامية كثيرة ذات مرجعيات مختلفة، في مصر على سبيل المثال، باستثناء أحزاب جديدة ناشئة كحزب العزة أو أحزاب حاكمة كالحرية والعدالة، هناك حزب الوسط والوسط الجديد وحزب النور والنهضة والبناء والنهضة والإصلاح والنهضة والفضيلة والأصالة.. إلخ، وأغلبها لا تتشابه أسماؤها فحسب، بل حتى خطوطها العريضة، وأهمها تحويل قضية الحاكمية من شكلها القديم المطلق إلى تطبيق الشريعة بمعايير الحزب، آخرها كان اقتراحا من أحد رموز الأحزاب السلفية بتعديل الدستور ليشمل التطبيق فهم السلف الصالح! نحن بإزاء حالة من التفريخ وأحزاب الأنابيب الإسلامية بسبب إغراء كعكة السلطة، وليس بسبب سياق تاريخي طبيعي للعمل السياسي.

والسؤال هل من المفيد للحالة السياسة العربية إجمالا هذه التعددية الحزبية إذا أردنا الوصف الإيجابي لها، أو حالة الانقسام وكثرة الجائعين في مائدة الديمقراطية الشهية؟

في البدء وعلى مستوى مرحلي أعتقد أن حالة التجذر الإسلامي والانشطار إلى أحزاب صغيرة كل له رؤيته السياسية الخاصة، سيصيب الحالة السياسية بشلل وترحيل لكل المشكلات، وأهمها الاقتصادية، ومحاولة الصراع على اقتسام جزء من السلطة ولو بشكل رمزي، لكنه على المستوى البعيد، وهو المهم، مفيد في إخراج «الإسلام» من أن يستخدم كفزاعة لكل الأحزاب السياسية الأخرى التي لا تتفق مع آيديولوجية الإسلام السياسي، ذلك أنها ستتساءل: إسلام أي حزب من هذه الأحزاب الكثيرة تريدون بالضبط؟

الإشكالية الحقيقية أن المنطقة، كما هو الحال الآن، ستنتقل من حالة «العمل السياسي» إلى «الشغب السياسي»، وهو ليس بالضرورة انتقالا للعنف، بل حالة طويلة من القيل والقال السياسي الذي لا يعتمد أي برامج أو خطط أو عمل واضح المعالم، بل مجرد ألاعيب لفظية لتزجية الوقت وتسجيل حضور سياسي بدعم من منصات الإعلام الجديد التي لم تعد كالإعلام التقليدي بحاجة إلى كلام واضح ومركز في مساحة محدودة، فإما أن تكون سيد الحدث، وإلا فإن الإعلام سيتجاهلك، بل على العكس يمكن أن تتسيد المشهد في الإعلام الجديد بمقدار قدرته على اختلاق المعارك الوهمية وحملات الصراع التي جعلت المحتوى العربي مثلا على «تويتر» والـ«فيس بوك» يتضاعف كمًّا بشكل مرعب، لكنه هش وسطحي جدا على مستوى النوع.

هبوط «المحتوى السياسي» نوعا ليس أزمة الإسلاميين وحدهم؛ ذلك أن الانتقال من حالة السلطة المطلقة في الأنظمة السابقة إلى حالة السلطة الشمولية الآن، سيحول الانتخابات مهما كانت نزاهتها إجرائيا إلى أدوات شكلية فقط، تقدم السلطة للأحزاب الشمولية المتسيدة المجتمع على طبق من فضة، وبالتالي مهما تحسنت وضعية الأحزاب السياسية لن يكون لها تأثير؛ لأنها من المستحيل أن تحصد الأغلبية ما دامت تدور في فلك نخبويتها.

من الأخطاء الفادحة ما يمارسه الآن راكبو الأمواج السياسية من اليسار من محاولة التلويح بتشابه الوضع بين أحزاب الإسلام السياسي وبين الأحزاب الدينية المسيحية، فتلك الأحزاب الديمقراطية في أوروبا مرت بتحولات هائلة على مستوى الفصل بين مواقفها السياسية وبين هوياتها الدينية، إضافة إلى أن تموضع السياسة في الإسلام عبر التاريخ كان محل إشكالية ما زالت عالقة حتى الآن، رغم بعض انفراجاتها في حقبة النهضة أو ما بعدها، كحالة علي عبد الرازق، وهي حتى في كل تلك الانفراجات ظلت قابعة في رف النخبة، لم تأخذ حظها من التفعيل الاجتماعي.

ما يمكن التنبؤ به في هذا السياق هو أن يكرر الحاكمون الجدد اليوم وضعية الأمس، ولكن مع إحكام القبضة الاجتماعية، وذلك عبر التحول من السلطوية المطلقة إلى السلطوية الديمقراطية، يمكن أن تشارك كل الأحزاب لكنها لا يمكن أن تفوز، وحتى نكوص السلطة السياسية الجديدة عن وعودها لن يجعلها تقف كما كان الإسلاميون من قبل مع السلطات الراحلة على صفيح ساخن، ففرضية العمل العنفي من تيارات متكلسة بعيدة التوقع والمنال.

الإشكالية الحقيقية أن فشل الإسلام السياسي في استيعاب فسيفساء العمل السياسي المتكونة من أحزاب متعددة مختلفة التوجهات والمشارب والمرجعيات، بما يفوق بمراحل فشل الأنظمة السابقة في استيعاب أولئك، تقابله حزمة من الفشل المتوقع بسبب نقص الكوادر، سواء في الاقتصاد أو حتى في الثقافة والفنون، والأهم من هذا وذاك هو إعادة صياغة الجانب الأمني بما يتلاءم مع مفهوم وهيبة الدولة، وربما تأمل حالة سيناء في تجربة مصر، والسلفية الجهادية في تونس وليبيا، والحوثيين في اليمن، يقودنا إلى أن الأحزاب الإسلامية ستفشل في التعامل الأمني مع خصوم دولتها وإن لم يكونوا خصومها تماما آيديولوجيا، وهنا لن يكون لإرسال شيوخ كوساطات، أو حتى إلقاء الخطب الرنانة، أو الاستعانة بـ«قطر»، إلا حلول وقتية من شأنها أن تراكم المشكلات وتجذرها، سنة هجرية قادمة.