حكاية متحف

TT

مصر بلد فريد، تحوي أرضها كنوزا لا يوجد لها مثيل في بلد آخر، سواء من حيث حجم هذه الكنوز وقِدمها، أو أصالتها وقيمتها التاريخية والفنية. وبعيدا عن الآثار الفرعونية التي هي بحكم عمرها الزمني السحيق أصبحت رمزا لمصر والمصريين على امتداد تاريخهم، فإن الآثار الإسلامية من مساجد وقلاع وقصور ومنازل وخنقاوات ووكالات تجارية وخانات وخلوات وأسبلة وتكايا وزوايا، إضافة إلى الآثار المنقولة من تحف وأعمال فنية بالمتاحف، هي كنوز تشهد للفنان والصانع والمهندس الإسلامي بالتفرد والعبقرية وروح الابتكار.

ولا غرابة أن تكون مصر البلد الأول في العالم الإسلامي الذي يصدر قانونا لحماية الآثار الإسلامية.. حيث صدر في 18 ديسمبر (كانون الأول) سنة 1881م الأمر الخديوي بتشكيل لجنة حفظ الآثار العربية، التي تشكلت برئاسة محمد زكي باشا ناظر الأوقاف والمعارف العمومية. أما عن أعضاء اللجنة، فجميعهم هامات ثقافية؛ مثل شاعر السيف والقلم محمود سامي البارودي باشا وزير الحربية، ومصطفى فهمي باشا وزير الخارجية. وكانت مهمة اللجنة القيام بأول حصر شامل للآثار العربية القديمة وحفظها وصيانتها من التلف ونقل القطع الأثرية إلى ما يعرف بـ«دار الآثار العربية»، وكان أول مقر لها هو الرواق الشرقي من جامع الحاكم بأمر الله.. وبعدما امتلأ عن آخره، بدأ استغلال صحن الجامع الذي تحول إلى أول متحف للآثار الإسلامية في العالم كله وذلك حتى سنة 1899م عندما بدأ تأسيس مبنى المتحف الإسلامي الحالي في منطقة باب الخلق على الضفة الغربية للخليج المصري الذي تم ردمه في السنة ذاتها. وقد صمم المبنى المهندس المعماري الإيطالي ألفونسو مانيسكالو، وجعله من طابقين على الطراز المملوكي. وافتتح المتحف في عام 1903م، وقد خصص الخديوي عباس حلمي الثاني الطابق الثاني من المبنى ليكون مقرا لـ«دار الكتب الخديوية» المعروفة الآن بـ«دار الكتب المصرية».. أما الطابق الأرضي فخصص متحفا ومقرا لدار الآثار العربية بعد أن تم نقل المقتنيات الفنية من جامع الحاكم بأمر الله. وقد حمل اللوح التأسيسي الرخامي الذي وضع حجر أساس للمبنى في باب الخلق النص التالي: «في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني وضع أساس الكتبخانة الخديوية ودار الآثار العربية سنة 1317هـ..».

ولقد ظلت أعمال التطوير سواء في أسلوب العرض أو الحفظ والتسجيل مستمرة بالمتحف الإسلامي، وبالاستعانة بكل الخبرات العالمية لإدارة دار الآثار العربية بباب الخلق، التي تحولت بعد ذلك إلى متحف الفن الإسلامي. وظلت الكنوز الفنية الإسلامية ترد إلى المتحف سواء عن طريق الإهداء أو نتاج الحفائر في مناطق الفسطاط وغيرها، وأصبح المتحف يضم أكثر من مائة ألف قطعة وتحفة أثرية. ومن الكنوز التي يحفظها، كنز العملات الذهبية التي عثر عليها في جرتين من الفخار تحت عتب بيت زينب هانم خاتون، وبهما 3611 دينارا ذهبيا، إضافة إلى كنز آخر من الدنانير الذهبية وعددها 701 دينار عثر عليها في أطلال بيت قديم بدرب القزازين بحي السيدة زينب.

المهم أن أعمال التطوير الشاملة لمتحف الفن الإسلامي بالقاهرة قد بدأت في سنة 2003م، عندما أصبحت عمارة المتحف في حاجة إلى التدخل السريع. وقصة تطوير المتحف الإسلامي هي بحق ملحمة يقف وراءها رجال مخلصون استطاعوا أن يعملوا بروح الفريق الواحد، وأن يتعاون الجميع كلٌ في تخصصه بكل حب ومودة سواء كانوا مصريين أم أجانب.. وكنت أسعد الناس وأنا أرى شباب المرممين والأمناء والمهندسين المصريين وهم يعملون بتفانٍ لتجديد شباب المتحف وافتتاحه مرة أخرى للزيارة بعد معاناة طويلة من الشيخوخة، خاصة أن عمره قد تجاوز المائة عام. أكتب هذا وأنا أرى الآن محاولات خبيثة لتشويه كل عمل جاد وناجح تحقق وأنا أتولى مسؤولية الآثار في البلد الذي عشقته وأعطيته كل عمري ومجهودي، ويصعب علي أن أرى مجهود الشباب المصري الرائع الذي عمل معي يشوه لا لشيء سوى أنهم نجحوا، بينما فشل أصحاب الصوت العالي الآن، الذي من المؤكد أنهم لا يملكون سواه.