والإخواني الشيعي

TT

في النصف الأول من التسعينات كانت مجموعة سلفية متشددة في الرياض تتناقل فيما بينها كاسيتات لمنشد شيعي يردد أحديات شيعية لا تمت إلى المذهب السني بصلة، ولكنها كانت تطرب أسماعهم بعيدا عن المحظورات الصغيرة تجاه الغناء والمعازف ونحوها حينذاك، والسؤال هو: كيف استطاعت أحديات الشيعة أن تصل إلى هذه الفئة من متشددي السنة؟

شيء من الجواب يكمن في استحضار عمق العلاقة وحجم التبادل والتأثير بين الأصوليات الشيعية والسنية. في المقالة السابقة تم التركيز على «الشيعي الإخواني» في محاولة لرصد تأثير الأصولية الحركية السنية على مثيلتها الشيعية، وفي هذه المقالة «والإخواني الشيعي» سيكون الرصد معاكسا، بمعنى قراءة تأثير الأصولية الحركية الشيعية على مثيلتها السنية.

ومن هنا يجيء التأكيد على أنه قد كان للأصولية الحركية الشيعية تأثير على مثيلتها السنية، ومن ذلك أن فكرة إنشاء جماعة دينية معارضة وذات طموحات سياسية كان منشأها التاريخي إسلاميا - إذا استثنينا الخوارج - لدى الحركات الإسلامية السرية المتعددة التي كان للطائفة الشيعية منها نصيب كبير، مع استحضار أن تأسيس جماعة الإخوان المسلمين كانت له مصادر متعددة، منها التأثر بالحركات والأحزاب الغربية القومية ومنها الشيوعية بشكل أخص، والتشابه بين الأحزاب الشيوعية وجماعة الإخوان المسلمين من حيث البنى الفكرية والبنى الحركية والتنظيمية أظهر من أن يدلل عليه، فمفاهيم مثل «الالتزام» و«الردة» التي يستخدمها الإخوان هي مفاهيم مأخوذة من الشيوعية، وإن تمت محاولات لاحقة لأسلمتها، وقل مثل هذا في البنى الحركية والتنظيمية، فالهرمية والسرية والطاعة المطلقة والطابع العسكري كلها مأخوذة تنظيميا من الأحزاب الشيوعية، وذلك موضوع طويل وفيه الكثير من المؤلفات والأبحاث.

كذلك، فقد استفادت تلك الحركات من تاريخ الشيعة وبخاصة في زمن الاضطهاد السياسي والمعارضة السياسية عدة أمور، منها: «الاستقلال المادي» و«المسرح الديني» و«الكربلائيات» و«الأناشيد».

في الاستقلال المادي كان لدى الحركات الشيعية مصدر دخل ثابت هو «الخمس» الذي تجنيه المراجع الشيعية من رؤوس أموال رجال الأعمال الكبار إلى عامة الناس، بحيث لا يطهر مال شيعي ما لم يقدم هذا الخمس لمرجعه الديني، وهو ما يوفر لتلك المراجع مداخيل مادية ضخمة. وقد انتبهت الإسلامية الحركية السنية - حيث لا خمس - لأهمية هذا الاستقلال المادي، فسعت ومن خلال طرق مختلفة للحصول على هذا الاستقلال، ومن تلك الطرق الاستفادة من السيطرة على العمل الخيري وجمع التبرعات في كل الدول التي عملوا فيها جهرا أو سرا، ومن خلال البنوك التي يسمونها إسلامية، وهي في الحقيقة نفس البنوك المعروفة مع شيء من التحايل واللف والدوران، وغيرها من السبل المتعددة، وهي كلها أساليب في جمع الأموال لا تمر عن طريق الدولة ولا تسيطر عليها، ويذكر فرنسوا تويال أنه في القرن التاسع عشر كانت «هبات الشيعة وإرثهم تذهب إلى رجال الدين، من دون المرور بالدولة»، كتاب «الشيعة في العالم» ص 52.

في المسرح الديني يتحدث ولي نصر أنه «إذا كان مدار المذهب السني هو الشرع وما يجب وما لا يجب فعله في الإسلام، فإن مناط المذهب الشيعي هو الشعائر والعاطفة والدراما»، كتاب «صحوة الشيعة» ص54. كما يذكر الباحث فرنسوا تويال لجوء رجال الدين «إلى تشجيع ما يمكن أن يسمى بالمسرح الديني من خلال مجالس التعزية، مدعمة سلطتها على الجماهير، بعيدا عن الدولة».

معلوم أن المذهب السني أكثر تشددا في هذا المجال من المذهب الشيعي، فالمذهب الشيعي مذهب الأناشيد والدراما منذ القديم، والمسرح الإسلامي كان من نتاج جماعات الإسلام السياسي السنية الحديثة، ولعله استفاد الفكرة من التجربة الشيعية.

أما الكربلائيات الشيعية فمعروفة لدى الطائفة الشيعية باعتبارها تستجلب العواطف وتستدر المشاعر تجاه مظالم الشيعة التاريخية، وكيف أنها تمثل المعارضة المضطهدة التي تتعرض لأنواع النكال والتعذيب طوال تاريخها، وقد تأثرت الحركات الأصولية السنية بها في ذلك، ويعبر عن هذا التأثر ما قام به الإخوان المسلمون تجاه ما تعرضوا له من تعذيب إبان الحقبة الناصرية، فقد حولوها إلى كربلائيات مشابهة للكربلائيات الشيعية، وقد روجوها بعدة أشكال وأنواع، منها الروايات ومنها المذكرات أو الذكريات ومنها القصص ومنها القصائد، وغير ذلك من وسائل التعبير الأدبي، وقد ساروا حذو القذة بالقذة بحيث أكثروا من المبالغات التي وصل بعضها إلى حد الكذب الصريح.

أما موضوع الأناشيد الدينية بشكلها المعاصر، فلئن كان ثمة افتراض أنها ذات مصدر شيعي، غير أن الأقرب هو أنها ذات مصدر صوفي، ذلك أن الأكثر اتصالا بجماعات الإسلام السياسي التي طورت هذا النوع من الأناشيد الدينية هو بالجماعات الصوفية، وعموما فقد اتجهت الأناشيد والأحديات باختلاف مسمياتها لدى الأصوليتين الحركيتين شيعيا وسنيا نحو التصعيد السياسي أكثر من كونها مجرد ممارسات طقوسية تستهدف الذكر والدعاء وعمل الخيرات.

إن التشيع السياسي الذي مارسته الجماعات الأصولية الحركية السنية عبر سنوات طوال يعد هو التأثر الأكبر بالأصولية الحركية الشيعية، بحيث استطاعت الجمهورية الإسلامية بإيران أن تجمع الأصوليات السنية الحركية، السياسية منها كالإخوان، والعنفية منها كـ«القاعدة» تحت لوائها، وكان رموزهما يفدون على البلاط الأصولي الشيعي لتقديم الولاء السياسي، أو يخضعون لدعمها وتأثيرها كـ«القاعدة».

أخيرا، فإنه باستحضار هذا التاريخ الطويل والمتشعب الذي حاولت اختصاره قدر المستطاع يمكن فهم العلاقات المتبادلة بين طرفي الإسلام السياسي سنيا وشيعيا التي تجلت اليوم في دول مستقلة، وفهم روابط التواصل والتآلف ودواعي التفارق والمعاداة.

إنهما طرفان مهمان في المعادلات السياسية الجديدة في المنطقة، وهما قد يأتلفان وقد يتخاصمان، يأتلفان لائتلاف التاريخ المشترك والمتبادل، ويتخاصمان ولكنه تخاصم تدفع له فكرة «العداوة بالقرب» لا الاختلاف بسبب البعد والافتراق.