مانديلا.. والربيع

TT

لم تفهم الأنظمة العربية التي ولدت من رحم الربيع العربي عظمة عبر حقبة العبقري الفذ نيلسون مانديلا الذي خرج من زنزانته بعد حبس قارب 29 عاما، ولم يخرج منتقما ولا حاقدا ولا غاضبا، وكان سيجد من يمنحه العذر لو كان كذلك، ولكن أسس فكرة عبقرية بنيت على مبدأ أخلاقي بسيط، وهو الإقرار بالخطأ من الشخص المخطئ والعفو والسماح من المجتمع، وهي مسألة عندما طبقت حصدت جنوب أفريقيا نتائجها بإبهار، وكان الاستقرار والتعايش وحسن الظن بين شعبها. ولكن المراهقة السياسية التي تصل لحد الحماقة في الكثير من الأحيان في أسلوب تعامل الأنظمة السياسية الجديدة لبلدان الربيع العربي مع التقلبات السياسية الحاصلة عندهم لا تدعو فقط للقلق، بل تدعو للحسرة والتعجب أيضا. فتنقسم الشعوب بين «مؤيدين» للثورة و«فلول» بجرة قلم. هو حرمان واقعي وعملي للآلاف من الكفاءات المخلصة والمهنيين الأكفاء وبناء فرضية مضللة أن هناك فئة أفضل من أخرى فقط لأسباب «ظنية» بحتة، متناسين أن بعض الظن إثم، وفي هذه الحالة فإنه إثم عظيم نظرا لما يحمله من أضرار مهولة.

نيلسون مانديلا العبقري الفذ كان لديه من الثقة بالنفس والرؤية الثاقبة وسعة الصدر أن يعين الحاكم الأبيض الذي ينتمي للحزب السياسي الذي أمر بسجنه طوال هذه السنين الصعبة أن يعينه نائبا له، نعم دي كليرك الحاكم الأبيض العنصري تحول إلى نائب رئيس جمهورية لنيلسون مانديلا في مشهد لم يصدقه دي كليرك نفسه، ولكن كان تطبيقا عمليا لفكرة التسامح والمعايشة. هل من الممكن تخيل ذات المشهد في مصر مثلا؟ إذا كان الرئيس محمد مرسي (وهو يقرأ الانقسام الهائل في أصوات الناخبين بين مرشحين اثنين) وبالتالي يدرك أن البلد نفسه منقسم بحدة، فيعين أحمد شفيق رئيسا للوزراء أو نائبا له. كم كان ذلك سيمتص من غضب الشارع ويهدئ الصراعات العبثية التي غرقت فيها البلد بين الفرق السياسية التي يخون بعضها بعضا، ولا نقول تتنافس، فهذا أمر وارد ومشروع جدا، ولكنه تخطى كل لغات المقبول ودخلنا في حيز اللاممكن واللامعقول. وهي نفس المسألة التي أدركت إلى حد ما في تونس بشكل استباقي، فتم تشكيل حكومة توافقية فيها أطياف الدولة المختلفة التي تعكس طبيعة التركيبة السياسية للشارع التونسي، ولكن الفكرة بحاجة لتطوير وتحسين، هذه تكسر حواجز الخوف والقلق من التفرد والهيمنة والطغيان لصالح طرف أو جهة على الأخرى، فيتولد بالتالي نوع جديد من الاستقواء والاستبداد، وهي مسألة قام لأجل إيقافها والقضاء عليها كل ما له علاقة بالربيع العربي.

واليوم في ليبيا أيضا بدأ الفرقاء والأطراف السياسية المختلفة يدركون عمق وأهمية هذا المعنى الكبير ويحاولون التفاهم على فكرة تركيبة سياسية تمنح الجميع الحد الأدنى من القبول والتوافق وتحقق التوازن المحترم والعادل المفقود.

ما أظهره الربيع العربي أن الفرق الفائزة لا تحب لغة «الفريق»، ولا أقصد هنا الإشارة إلى الرتب العسكرية، ولكن لغة الفريق أي بمعنى اللعب الجماعي، فهناك لغة «الانفراد» واضحة، وهذه مسألة ستولد حتما الإحساس بالأفضلية والفوقية، فتولد إحساسا بالتحجيم والتجاهل والانتقاص لدى الأطراف الأخرى المعنية، مما يعني مجتمعات كالجزر متباعدة عن بعض، لا يثق بعضها في بعض، وتصبح تكلفة البناء ومد الجسور أغلى وأبهظ ثمنا.

القرارات «الصعبة» حتى وإن كنت غير «محبوبة وشعبية» عادة ما تكون هي القرارات «الصائبة»، ولكن المهارة تكون أيضا في توقيت اتخاذ القرارات الصعبة، ومهارة حسم الأمور، وهي مسألة لا تأتي إلا لمن كان التوفيق حليفهم، ولكن التوفيق يبدو عزيزا للكثيرين. الربيع العربي جاء «بحماس»، ولكن لن يؤتي ثماره الحقيقية المنشودة إلا «بالحكمة»، وبين الحماس والحكمة جسر هائل مطلوب أن يشيد على أساس إحسان الظن بالغير، وهي مسألة تبدو بعيدة كل البعد الآن عن الجميع، مما يعني أن المشوار لا يزال طويلا قبل أن تكتمل الصورة المنشودة للربيع العربي.

نيلسون مانديلا لا يزال يعيش بيننا، نصيحة راجعوا تجربته العظيمة بتمعن عميق؛ فالرجل أقدم على عمل عبقري لم تستفد دول الربيع العربي منه أبدا.

[email protected]