هل الولايات المتحدة.. متحدة؟

TT

قبل أربع سنوات وعندما انتخب باراك أوباما كأول رئيس للولايات المتحدة من جذور أفريقية، كانت الأجواء الطاغية هي الفرح المقرون بالكثير من الأمل، ليس داخل أميركا وحدها بل حول العالم. فشعار التغيير ضرب على الكثير من الأوتار والأحلام، وجعل الكثيرين يتوقعون أن يدشن دخول أوباما البيت الأبيض مرحلة جديدة عنوانها الأبرز هو الأمل. ففي أميركا حلم الكثيرون بأن تكون بلادهم قد طوت صفحة من الماضي المؤلم، وبدأت تداوي جراحا عميقة لتكون أكثر وحدة وانسجاما وتقاربا، وبأن ينعكس ذلك التفاؤل أيضا على الاقتصاد الأميركي بحيث يخرج من سنوات الأزمة إلى التعافي. أما في الخارج فقد علت الآمال بأن ينقل انتخاب أوباما العالم نحو مرحلة أفضل من التعاون والهدوء بعد سنوات من التوتر والحروب التي وصمت سنوات جورج بوش الابن في البيت الأبيض وتحديدا منذ هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 التي غيرت الكثير في مسار أميركا والعالم.

كل استطلاعات الرأي التي نشرت آنذاك عكست هذه المشاعر، فقد قال 67% من الأميركيين في استطلاع أجرته مؤسسة غالوب لصالح صحيفة «يو إس إيه توداي» إنهم يشعرون بالتفاؤل والفخر بعد انتخاب أوباما، بينما وجدت شبكة «سي بي إس» التلفزيونية الأميركية في استطلاع آخر أن 71% من الأميركيين عبروا عن تفاؤلهم للسنوات الأربع المقبلة. كذلك قال 70% ممن استطلعت غالوب آراءهم إنهم يعتقدون أن العلاقات العنصرية ستكون أفضل نتيجة لانتخاب أوباما وما يعنيه ذلك بالنسبة للأقليات وللخليط المكون للمجتمع الأميركي من مختلف الأجناس والأعراق والديانات.

لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فجاءت انتخابات 2012 في أجواء أبعد ما تكون عن روح الأمل والتفاؤل التي أعقبت انتخابات 2008. سواء على صعيد أميركا أو العالم. تلاشت أحلام التغيير لتحل محلها المخاوف والقلق من تبعات الأزمات الاقتصادية والتوترات السياسية في كثير من أرجاء العالم، حتى أن 72% من الأميركيين أعربوا في استطلاع للرأي عن اعتقادهم أن بلدهم سيكون طرفا في نزاع أو حرب بالخارج خلال الأربع سنوات المقبلة.

انتخابات 2012 سلطت الضوء على أمر آخر يستحق الوقوف عنده، وهو أن أميركا منقسمة بشدة على ذاتها، وأن تركيبتها الداخلية تتغير بسرعة، بكل ما يعنيه ذلك بالنسبة لأوضاعها السياسية والاجتماعية. فأوباما فاز بدعم السود واللاتينيين والنساء والشباب، بينما كان الدعم الأساسي لرومني بين البيض خصوصا من كبار السن وفي الأرياف، وهذه الاعتبارات ستلعب دورا كبيرا في أسلوب الاختيارات والحملات السياسية للحزبين الجمهوري والديمقراطي مستقبلا. فالأميركيون اللاتينيون (أو الهسبانك كما يشار إليهم أحيانا) يعتبرون المجموعة الديموغرافية الأسرع نموا في الولايات المتحدة وقد تجاوزوا السود، في حين أن نسبة الناخبين البيض تتراجع سنويا. فقبل عشرين عاما كان البيض يشكلون نسبة 90% من مجموع الناخبين المسجلين في أميركا، لكن هذه النسبة تراجعت إلى 74% في انتخابات عام 2008، ثم إلى 70% في انتخابات 2012. ويرى كثير من المحللين أن التأثير الأكبر لهذا التغيير الديموغرافي سيكون على الحزب الجمهوري الذي سيترتب عليه إعادة تغيير استراتيجيته الانتخابية لينافس الديمقراطيين على أصوات الأقليات، وخصوصا اللاتينيين.

لكن الصورة ليست بهذه البساطة لأن أوباما فاز أيضا بدعم قوي بين النساء إذ حصل على نسبة 55% من أصوات النساء مقابل 44% صوتن لرومني وهو أمر ربما يعزز من فرص هيلاري كلينتون التي تدل كل المؤشرات على أنها تعد العدة منذ الآن لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة في عام 2016 لا سيما أن النساء يقبلن على التصويت أكثر من الرجال وفقا لمسار الانتخابات في السنوات الأخيرة. كذلك صوت الشباب بكثافة لصالح أوباما، إذ حصد نسبة 60% من أصوات الشباب بين سن 18 و29 عاما، في حين أن رومني حصل على أصوات 37% من أصوات هذه الفئة. وحتى في فئة الأعمار بين 30 و44 عاما صوت 52% لصالح أوباما وهو أمر بالغ الأهمية في مجتمع تتزايد فيه أعداد الشباب وتتراجع أعداد المسنين الذين دلت الاستطلاعات على أن الغالبية منهم صوتت لرومني والجمهوريين.

مشكلة أميركا الكبرى تظهر عندما يتأمل المرء في توزيع الأصوات بين أوباما ورومني وفقا للتركيبة الإثنية، فنسبة 59% من البيض صوتوا لرومني مقابل 39% لأوباما، في حين أنه بين السود صوت 93% لأوباما مقابل 6% فقط لرومني. أما بين الهسبانك أو اللاتينيين فقد صوتت نسبة 73% لصالح أوباما مقابل 26% لرومني. صحيح أن رومني أصاب نفسه في مقتل عندما استفز أعدادا كبيرة من الفقراء والسود واللاتينيين في بعض تصريحاته وهفواته ومنها تصريحه الشهير الذي قال فيه إن هناك نسبة 47% من مؤيدي أوباما لا يدفعون ضرائب ويعتبرون أنفسهم ضحايا ويعتمدون على الدعم الحكومي وهو لا يعتبر أن من واجبه أن يقلق على هؤلاء. لكن هذه التصريحات وإن أضرت به وعززت صورته كرجل أبيض ثري لا يكترث للأقليات، ولا يفهم معاناة الفقراء، إلا أنها في الواقع لم تكن ستغير كثيرا في طريقة تصويت الناخبين من الأقليات، على الأقل في هذه الانتخابات.

أميركا قد تكون أعادت انتخاب أوباما رغم الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أثرت كثيرا على موقفه، لكنها لم تخرج من الانتخابات موحدة أو متفائلة، بل أثبتت النتائج أنها تعيش انقسامات عميقة تحت السطح وهي انقسامات ستكون لها تأثيرات واضحة على تركيبة السياسة الأميركية وتوجهاتها أيضا في السنوات المقبلة.

[email protected]