كوابيس!

TT

شيء غريب جدا أن تكون الأنظمة التي تنادي بالقومية العربية هي الأنظمة الأكثر قمعية والأكثر استبدادا. التاريخ القريب يوضح ويؤكد لنا ذلك بشكل كامل.

لقد ذاق العرب المر والذل والهوان من مهرجي الاستبداد الذين اتخذوا شعارات براقة وجذابة لإبراز العروبة والقومية «كجزرة» يندفع وراءها قطيع الشعوب. ولكن بنظرة موضوعية وصادقة لهذه الظاهرة سنرى يقينا أن نماذج مثل جمال عبد الناصر وصدام حسين وحافظ الأسد وابنه بشار الأسد ومعمر القذافي لم يكونوا سوى طغاة ومستبدين حولوا بلادهم إلى زنازين كبيرة ليمارسوا على شعوبهم كل أشكال التنكيل والطغيان والاستبداد.

لم تنجح القومية في أن يكتب لها الرواج والانتشار على ألسنة نظم تؤمن بالتعايش والتعددية والديمقراطية والحرية والكرامة، فارتبطت شعارات العروبة بالتالي بالديكتاتورية والطغيان وفقدت من بعدها أي نوع من أنواع الجدارة أو المصداقية.

كل ذلك ولّد إرثا مهولا من الأكاذيب والتضليل تفنن في إطلاقه رموز هذه الأنظمة بشتى الوسائل ولأجل غرض واحد فقط وهو البقاء الأبدي في السلطة، فدمروا لأجل ذلك الموارد المالية والبشرية ودخلوا في مغامرات عسكرية حمقاء وتصفية دموية لرفقاء الدرب وشركاء الأمس.

كل الشعارات التي أطلقت بين أفراد الشعب كانت بمثابة المسكرات والمسطلات المذْهِبة للعقول والوعي، خسرت هذه الأنظمة كافة المعارك التي دخلت فيها، سواء كانت عسكرية أو سياسية أو ثقافية أو اقتصادية.

هذا الوهم المقيت يفسر لنا «السكْرة» التي عليها مؤيدو جمال عبد الناصر إلى اليوم، فما زالت صور الرجل ترفع في غزة والضفة الغربية وهو المسؤول عن ضياع هذه الأراضي من أصحابها، ونفس الأمر ينطبق على صدام حسين الذي أضاع ثروات بلاده بحماقة ما بعدها حماقة وفي حروب ساذجة وخبيثة ومع ذلك هناك من لا يزال يرفع صوره ويمجد سيرته، والأمر نفسه بالنسبة للمهرج معمر القذافي الذي كان هناك من يدافع عنه في المقالات ومحطات التلفزيون بأنه رمز للعروبة والقومية وهي مسألة لا يمكن أن يصدقها القذافي نفسه.

وطبعا نفس الشيء على شركة حافظ الأسد وابنه بشار اللذين روجا لفكرة «النظام المقاوم» وهي مسألة زرعت في عقول الناس بالتدريج حتى باتت كالمخدر الذي يولّد الإدمان بعد فترة تعاط طويلة، وهذه الهلوسة السياسية قد تفسر قناعة البعض بتأييد نظام الأسد والاقتناع والتصديق بأن نظام الأسد فعلا محق وهو فعلا نظام مقاوم، وهي مسألة لا يمكن تصديقها من أي عاقل.

نظام «حافظ» على سلامة حدوده مع إسرائيل لعقود طويلة من الزمن حتى بات الذباب نفسه لا يمكنه العبور بين البلدين إلا بإذن عسكري كما تقول النكتة المشهورة. الأنظمة القمعية الطاغية التي باعت لشعوبها بضاعة فاسدة ومضللة تحت شعارات جذابة رحلت إلى مقالب قمامة التاريخ مخلفة سجلا فاضحا من «الإنجازات» المزيفة، وإرثا مخجلا ومعيبا من صناعة الطغيان الذي ستحتاج بلادهم إلى عقود لأجل الخلاص مما تم عمله.

التعلق بالأنظمة الطاغية كالمشهد المذهل الحاصل للبعض مع نظام الأسد المجرم هو مسألة نفسية في المقام الأول، وهي مشكلة أجيال بنيت على ضلال فكان من الطبيعي أن يولد هذا النوع من الإحساس الخاطئ والغريب.

ولكنها لحظة إيقاظ كبرى للأجيال التي غرر بها وكانت على خطيئة عظيمة. العروبة والقومية ستكونان لسنوات مرتبطتين بشخصيات مقيتة وأنظمة مجرمة جنت على بلادها وأذت شعوبها وخلفت إرثا مفزعا ستحار كتب التاريخ في معرفة كيفية كتابة تفاصيله والدخول في أسبابه.

ولكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح، لأن ما بني على باطل فهو باطل، وهي المسألة التي اتضحت للعقلاء والحكماء ممن قيموا التجربة القومية والعروبة على أيدي «هؤلاء».

العالم العربي ودع مرحلة وعلى موعد مع مرحلة جديدة تماما، وكل الأمل ألا تتكرر دروس الماضي من دون استفادة حقيقية من تفاصيلها المأساوية والمؤلمة. العروبة والقومية تحولتا إلى شعارات عنصرية وفاشية لم تولد في الختام سوى كوابيس كان لا بد من الاستفاقة منها.

[email protected]