الفتوى والمفتي في فرنسا

TT

تكاد الصدفة تكون بمفردها ما أوقفني على كتاب «المهنة: إمام» أو «مهنتي إمام». والكتاب المذكور حصيلة حوار بين طارق أوبرو، إمام مسجد مدينة بوردو الفرنسية، وصحافيين فرنسيين استمر أشهرا عدة وأثار جملة القضايا الكبرى، المحورية، التي تتصل بوجود المسلمين في فرنسا «قضايا الأئمة وتكوينهم والمهام التي يرى مسلمو فرنسا أنها لهم، والإفتاء والمفتي، والشريعة وإمكاناتها ومعناها في بلاد ماهيتها اللائكية، والحياة الروحية، والحوار بين الديانات من جهة نظر الفرنسيين المسلمين، ومن خلال ذلك كله قضايا الاندماج في المجتمع الفرنسي، والمواطنة، والمرأة، وما أصبح اليوم ينعت بظاهرة (إسلام السجون) - أي الفرنسيين الذين أصبح السجن لديهم سبيلا إلى اعتناق الإسلام لدواع وأسباب شتى.. وموضوعات أخرى فرعية تنقلنا إلى جوف ثنائية أو إشكال: الإسلام - الغرب».

صدر الكتاب عن إحدى دور النشر الفرنسية قبل ثلاث سنوات، ولكل الاعتبارات التي ذكرت فإن الكتاب يستحق أن يكون موضوع حديث عنه، بل موضوع وقفات. وأود أن أنتهز الفرصة لأنوه بأمر يستحق التنويه هو أن المعيش اليومي للمسلمين في فرنسا خاصة (وأحكم بما لدي به بعض العلم)، وفي الغرب الأوروبي عامة ينال من أولئك المسلمين اهتماما كبيرا ويشي بالإقبال الواسع نسبيا على متابعة ما تنشر جريدة «الشرق الأوسط» من موضوعات ومن العلامات التي تدل على ذلك ما أقرأه من تعليقات من قراء الصفحة. والجريدة الغراء تستحق منا الشكر والتنويه وتستدعي طلب مزيد اهتمام من القراء والكتاب على السواء وتدعونا إلى استزادة الجريدة مزيدا من البحث في أحوال الإسلام والمسلمين في تلك البلاد.

ولعلي أستعجل القول فأشير إلى قراءة أمثال الكتاب الذي أشير وكذا محاولة التعريف ببعض ما يطرح على بساط التفكير من قضايا تنقلنا، في جوانب شتى منه إلى صلب إشكالاتنا في بلادنا العربية، حيث الغالبية العظمى من الساكنة يدينون بدين الإسلام.

ربما وجب البدء بالتوقف قليلا عند المحاور (بفتح الواو) في الكتاب، فليس الكتاب مجموعة من الأجوبة القصيرة عن أسئلة يستدعيها الفضول الصحافي بل هي، في الأغلب، تأملات ونظر ثاقب وهي في بعض الأحيان احتجاج بنصوص وأقوال لفقهاء ومتكلمين وأصوليين (نسبة إلى أصول الفقه - رفعا لكل التباس) والمحاوران (بكسر الواو) ينمان عن معرفة غير قليلة بكليات الفقه والشريعة، فهما يتدخلان في أسفل الصفحات بشروح وتوضيحات للقارئ الذي يجهل اللغة العربية، وقد لا يحسن لغة أخرى غير الفرنسية. معنى قولنا هذا أن المؤلف ليس مجرد إمام لمسجد في مدينة فرنسية عظمى تأوي عشرات الآلاف من الفرنسيين المسلمين الذين هاجر أجدادهم أو آباؤهم إلى فرنسا منذ عقود هي اليوم غير قليلة، كما أنه ليس مفتيا في الشرع الإسلامي فقط، بل نحن نجيز لأنفسنا القول إن فكره ونظره الفسيح يرقى به إلى مرتبة تعلو على ذلك كثيرا دون أن تبعده عن صورة الإمام وعالم الإسلام الذي يقول ويلح في القول: إنه لا يجد غضاضة في الجمع بين الانخراط الكلي في المجتمع اللائكي وبين الإسلام، بين المواطنة الفرنسية التي يريد لها أن تكون كاملة وبين ممارسة الشريعة الإسلامية على النحو الذي يرى أن لها أن تمارس به مسار طارق أوبرو (الإمام مؤلف الكتاب) ليس مسارا عاديا بالنسبة لشخص يقوم بإمامة الصلاة في الأوقات الخمسة وبالخطبة في المؤمنين يوم الجمعة، ومطالب المسلمين في فرنسا (أو بالأحرى: الفرنسيون المسلمون ولا يزال الأمر يستوجب التوضيح، لأسباب اجتماعية - وجدانية معا). مساره مغاير لما اعتاد الناس عليه في إعداد الإمام للمهنة فهو قد قدم إلى فرنسا في ثمانينات القرن الماضي قصد دراسة الصيدلة ثم التخصص في الصناعة الصيدلية، غير أنه وجد نفسه، لدواع ومعاناة شخصيتين، يصلي بالناس تطوعا في ضاحية أحد المدن المتوسطة الحجم.. ثم يأخذ بالتدريج في قراءة أمهات الكتب الشرعية وهذا من جهة، والاستغراق في العمل التطوعي بالإمامة من جهة أخرى حتى وجد نفسه، تحت إلحاح جمعية للمسلمين، يجعل من الإمامة مهنة وإن كان ما يتقاضاه من راتب يقل كثيرا جدا عما في إمكان الحامل لدبلوم في التقنية الصيدلية أن يحصل عليه.

ولست أريد أن أسترسل في هذا الجانب من الحديث وإن كان يخبر عن فرنسا وعن المجتمع الإسلامي الفرنسي - في السياق الذي ألمحنا إلى بعض جوانبه وإنما أنبه إلى بعض مما كان منتظرا منه (وبالتالي ما كان، وربما ما زال حتى اليوم، ينتظر من الإمام القيام به).

يحدثنا أنه كان من المطلوب منه أن يقوم بعمل المساندة الاجتماعية والنفسانية، مع أنه كان ينصح من يقصدونه بالذهاب عند الطبيب النفسي أو عند المتخصص في الأمراض النفسية. يذكر أنه كان من بينهم من يزاوج بين استشارة الطبيب المتخصص وبين طلب الفتوى الشرعية، في مجال ليس فيه للفتوى دخل، ويلتمس من الإمام العلاج الروحاني - ويذكر حكاية مضحكة محزنة معا لأسرة اتصلت به في جوف الليل ليقدم؛ حيث تسكن الأسرة على بعد 60 كيلومترا من سكنه، ليقوم بصرع الجني الذي يأخذ ببنت لهم. وهو يشير إلى أصناف كثيرة، غريبة أحيانا، من الفتاوى التي تلتمس منه والمغزى في ذلك كله هو أنه ينظر إلى الإمام والفقيه المفتي من قبل فئات عريضة من الناس بحسبانه الشخص القادر على إيجاد حلول لمشكلات تتصل بالحياة الاجتماعية والنفسية بطبيعتها غير أن حال الأمية الغالبة ومشكلات الاندماج في المجتمع الفرنسي وما يصاحب ذلك من أصناف الحرمان والظلم وسوء الفهم من قبل الساكنة «الأصلية» يحمل على ذلك كله.

على أن للمسألة جوانب أخرى تزيدها أكثر مشقة وعمقا معا، من ذلك، أولا، ظاهرة الغلو وهذه ترجع في الأغلب الأعم من الأحيان إلى الجهل في الدين جهلا يدفع إلى اقتراف أعمال تحمل على الإساءة إلى الإسلام والمسلمين والإساءة البالغة، وإن كانت النية سليمة بطبيعة الحال. والغلو في الدين يجد من المفتين المحدودي الأفق تشجيعا كبيرا، والمؤسف أن التصدي للفتيا يكون أيضا ممن كان قليل الزاد من المعرفة الدينية: من ذلك مثلا فتوى أحد البسطاء يقول صاحبنا إنه اضطر إلى إبطالها مع كراهيته لذلك. ذلك أن الإمام المستفتى في جواز الإباحة لكتابية زوجها مسلم أن تمارس شعائرها الدينية في بيت الزوجية - وكل هذا في فرنسا بطبيعة الحال. ومن ذلك فيما يجهد في تكراره أحيانا كثيرة من أن البرقع لا يتصل بالعقيدة، بل وليس حتى من شأن الشريعة وإنما هو سلوك ثقافي، كما يقول علماء الأنثربولوجيا.

غير أن ما يستدعي الوقوف وقفة إعمال للفكر واستجلاء مقصد الشارع من التشريع بالنسبة للمسلم الذي يعيش في بلد له من المواصفات ما لبلد مثل فرنسا هو الأحوال التي يصطدم فيها المفتي بين النصوص وبين الواقع المعيش. تتعدد الأمثلة التي يوردها صاحبنا إمام مسجد بوردو والرجل، خارجا عن هذا الحوار يجتهد في قراءة الشريعة قراءة جديدة فهو يعمل في دائرة ما يقول عنه إنه «شريعة الأقلية»، وهي من مناح كثيرة تختلف عن «فقه الأقليات» - كما يتحدث عنه بعض الفقهاء المعاصرين، وتلك قضية أخرى.