دجلة والأكراد والمادة 140

TT

في كل بلدان العالم هنالك ثوابت لدى حكوماتها سواء أكانت بنظام رئاسي أم برلماني، ومن هذه الثوابت حفظ الأمن، وهذا ما موجود في حكومات الأغلبية والحكومات الائتلافية، لكن هذه الثوابت في العراق يحاول البعض تغييبها أو إخضاعها لمبدأ التوافقات السياسية التي عادة ما تصل لنفق مظلم لا ضوء في نهايته بسبب وجهات النظر المختلفة إزاء القضية الواحدة.

وقد يقول البعض بأن التوافقات هي من حكمت العراق منذ عام 2003 وحتى الآن، لكن علينا أن نقول هنا بأن هنالك مسائل مهمة لا يمكن إخضاعها لهذا المبدأ بحكم خطورتها، ومنها الملف الأمني الذي يمثل هاجس الجميع، ويجب أن تكون لدينا رؤية فنية ومهنية له وليست رؤى سياسية تخضع لحسابات بعيدة جدا عن الواقع.

وعلينا هنا أن نشير إلى أنه كلما بادرت الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة بتشكيل قيادات ميدانية تتولى التصدي للإرهاب، نسمع تصريحات كثيرة تقف بالضد منها وتحاول أن تجعل منها (أزمة)، ولمسنا هذا في بداية عمليات فرض القانون في بغداد والكثير من (المسرحيات) التي صاغها البعض بالضد من هذه العمليات، وتكرر هذا السيناريو في عمليات كثيرة أخرى سواء صولة الفرسان أو بشائر الخير في ديالى وغيرها، بل وصل الأمر بالبعض لأن يرفض حتى توجيه ضربات استباقية لخلايا الإرهاب، إذ نسمع باستمرار عبر وسائل الإعلام ما يجعلنا نستغرب حقا من أساليب البعض في التعاطي مع الأمور السيادية ومنها ما يتعلق بالأمن والدفاع واستحداث التشكيلات العسكرية، خاصة أن الدستور العراقي صريح جدا في هذا حيث يوكل مهام كثيرة للحكومة الاتحادية ومنها ما يتعلق بالأمن والدفاع، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن الأسباب التي تدعو التحالف الكردستاني لرفض وجود قيادة عمليات دجلة وتشكيلها والتي تشمل محافظات كركوك وديالى وصلاح الدين، وهل هنالك تعارض دستوري في هذا، أم أن مجرد الاعتراض هو السمة التي باتت موجودة لدى البعض ممن لا يجدون أنفسهم إلا في إطار المعترض بغض النظر عن إيجابية هذا الاعتراض أو سلبيته؟ مع الأخذ بنظر الاعتبار بأن القوات الأميركية وللفترة من 2003 حتى عام 2011 كانت تشرف على أمن هذه المناطق، وبالتالي فإن وجود قوات عراقية فيها وهي جزء من الأراضي العراقية أمر طبيعي في سياقه الميداني قبل السيادي، وإلا لا يمكن ترك فراغات في هذه المناطق تملأها قوى الإرهاب التي ما زالت تتمركز في بعض قصباتها وتجد من يدعمها داخليا وبموارد عراقية.

وعلينا هنا أن نقول بأن هؤلاء الذين أدلوا بدلوهم في قضية عمليات دجلة وكل القضايا التي تتعلق بالأمن ومقارعة الإرهاب هم أنفسهم الذين يدلون بتصريحات يحملون فيها (القائد العام للقوات المسلحة) والأجهزة الأمنية مسؤولية أي حادث إرهابي يحصل هنا أو هناك، ويتناسون أنهم بتصرفاتهم هذه يقفون بالضد من عملية التصدي للإرهاب، وكما قلنا بأن التصدي للإرهاب حالة ميدانية لا يمكن أن تخضع للتوافقات بين الكتل السياسية، وعلينا أن نتخيل المشهد التوافقي في حالة كهذه. بالتأكيد هذا مستحيل لأن الإرهاب لا ينتظرنا لكي نصل لتوافقات ليبدأ عملياته ضد الشعب العراقي، بل هو يضرب هنا وهناك مستفيدا في أحيان كثيرة من أغطية سياسية تتوفر له بشكل أو بآخر وبقصد أو من غير قصد، لكنها في كل الأحوال تكون عائقا أمام القوات الأمنية في التصدي للإرهاب من جهة، وحافزا للقوى الإرهابية من جهة ثانية لأن تعيد ترتيب أوضاعها وخططها ولملمة بقاياها.

أما الهواجس والمخاوف التي تبديها كتلة التحالف الكردستاني إزاء قيادة عمليات دجلة وتحسسها من وجود الجيش العراقي، فهذا بحد ذاته مخالفة دستورية، لأن كردستان ليست دولة مجاورة للعراق بل هي جزء من العراق ولها موازنتها من الحكومة الاتحادية في بغداد بما فيها موازنة قوات حرس الإقليم (البيشمركة) من جهة ومن جهة ثانية وهي الأهم بأن المحافظات الثلاث ليست خاضعة لإقليم كردستان، وبالتالي فإن وجود جيش عراقي فيها أمر طبيعي جدا.

وقد يقول البعض بأن بعض هذه المناطق خاضعة للمادة 140 من الدستور العراقي، ومع هذا فإن أمرها لم يحسم بعد لأنه يتطلب إجراءات كثيرة أهمها إجراء إحصاء سكاني يتبعه تطبيع ثم استفتاء سكانها لتحديد عائديتها وهي عملية تستغرق سنوات طويلة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن القوى السياسية العراقية بعضها يجد أن المادة 140 من الدستور انتهى مفعولها بنهاية الدورة البرلمانية الأولى عام 2010. فيما يجد البعض الآخر أنها ما زالت على قيد الحياة، وأنا أجد أن هذه المادة يسعى الجميع للهروب من تطبيقها سواء التحالف الكردستاني أو القائمة العراقية التي تجد أن المادة 140 ماتت منذ عام 2010، بينما التحالف الوطني يلتزم الصمت إزاء هذه المادة لكونها تنحصر مبدئيا ما بين مناطق كردية ومحافظات تمتلك القائمة العراقية بزعامة إياد علاوي أصواتا كثيرة فيها، ومن شأن أي خطوة تتخذها القائمة العراقية إزاء هذه المادة ستجعلها تخسر إما الأكراد كحلفاء مرحلة أو جمهورها العربي كقاعدة أصوات لها في الانتخابات القادمة.