عالم تدينه لغته!

TT

كلما استمعت إلى تصريح غربي ازددت اقتناعا بأن المشكلة التي يواجهها ساسة الغرب منذ نشوب الثورة السورية هي إيجاد لغة تضليلية مناسبة تحجب عن أعين السوريين والعرب سياسة اللاموقف، التي تنتهجها دول كبيرة ومقتدرة كانت تسمي نفسها خلال نيف ونصف قرن: «العالم الحر»، يحرص رؤساؤها إلى اليوم، وبعد مرور قرابة عامين على المجازر المرتكبة ضد الآمنين والمظلومين في سوريا، على الحديث بمناسبة وبلا مناسبة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، دون أن يفعلوا أي شيء لوقف القتل في سوريا.

استمعت قبل أسابيع قليلة إلى تصريح للرئيس الأميركي باراك أوباما، جعل نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم التزاما أخلاقيا وسياسيا أميركيا لا مجال للتهرب منه أو للقبول بغير ما يمليه على أميركا من مواقف. وكان قد أتحفنا في خطب متكررة ألقاها في العالمين العربي والإسلامي بجمل شديدة البلاغة اعتبرناها في حينه تطبيقا لمبادئ ما سماه «الثورة الأميركية»، التي لا تفرق بين داخل وخارج، ولا تتوقف عند حدود أو قيود، بمجرد أن يتعلق الأمر بضمان حرية البشر وسلامتهم.

وزاد من ميل سامعي باراك أوباما إلى تصديقه قدومه من عالم المظلومين، فأبوه كيني وأمه أميركية، وقد نشأ وترعرع في جزر الهاواي وإندونيسيا، فافترض هؤلاء أنه عايش الفقر والحرمان من الحرية والكرامة، وقرر من موقعه المهم في البيت الأبيض مواجهة الفقر وانعدام الكرامة في كل مكان من العالم، الذي يعد بإخراجه من أحواله والأخذ بيده إلى ما فيه حريته وأمنه، لأن ذلك لصالح أميركا، كما أكد أكثر من مرة.

لكن الرئيس الأميركي ما لبث أن تصرف في الأزمة السورية بطريقة تقوض تماما ما كان قد قاله قبلها، فقد تجاهلها لفترة طويلة، قبل أن يبدأ هو ومعاونوه في قياس درجة شرعية الرئيس بشار الأسد، وابتكار لغة لا هم لها غير مساعدة أميركا على عدم اتخاذ موقف، على أن لا يدرك السوريون هدفها هذا، فلا عجب إن انتهى الأمر إلى ورطة حدها الأول لغة عاجزة عن وصف ما يجري على الأرض، لكنها تريد إقناع سامعيها في العالم عامة وسوريا خاصة بأنها تضمر سياسات سيتم اعتمادها عاجلا أو آجلا للمساعدة على حل الأزمة المتفاقمة، وحدها الثاني أن هذه اللغة بدت مهلهلة مفككة، مراوغة، تتحدث في السياسة لتخدع من تخاطبهم وتحجب عن أعينهم حقيقة المواقف الأميركية، بينما تتشدق بحب الإنسانية دون أن تعني ما تقوله بالنسبة إلى ضحايا القتل والعنف من السوريين. والفضيحة أن إيجاد لغة هذه مهمتها غدت مشكلة رئيسية في البلدان الغربية عامة وأميركا خاصة، وأنها جعلت بديلا لسياسة عملية تتفق والشرعية الدولية وحقوق الإنسان. من هنا، كان التناقض فاضحا بينها كألفاظ عنفت وجمحت في حالات كثيرة حتى بدا وكأن كلماتها توشك أن تمتطي ظهور الخيل شاهرة سيفها لتكون ما اعتبرته العرب «أول الحرب»، وبين تحفظ من أطلقوها ليحافظوا بمعونتها على مسافة تنأى بهم عن أي تدبير عملي يجعلها لغة صدق وواقعية، زعم أوباما في خطبة القاهرة أنها تضمر التزامات أميركية لن تحيد حكومته عنها تحت أي ظرف أو لأي سبب كان، لكنه كان يصحو بين حين وآخر ليفصح عن حقيقة سياساته السورية، كقوله بوجود خطين أحمرين في الأزمة لن تسمح أميركا بتجاوزهما هما: «أمن إسرائيل»، و«عدم وقوع أسلحة الدمار الشامل في أيدي الإرهابيين». يومها تساءلنا مع من سمعوا التصريح الخطير: أين حق الشعوب في الحياة والحرية والأمن؟ ألا يستحق هذا أن يكون خطا أحمر لا يسمح بتجاوزه؟ وإذا كان لا يستحق، ما عسانا نرى في التصريحات التي تحدثت عنه واعتبرته التزاما كونيا لا رجعة عنه، غير كذب يشجع النظام على المزيد من القتل؟

في ظل السلبية الباردة، التي تتفرج على الموت وهي تبتسم بسرور، تتركز المشكلة السياسية لدى دول الغرب الكبرى على إيجاد لغة تغطيها وتحجبها عن أعين ضحاياها، أو تقنع هؤلاء أنه لم يتم التخلي عنهم، ما دام الوعد الذي يمكنها إيقاظه في نفوسهم يوهمهم بأنهم ليسوا متروكين لمصيرهم الأسود. هكذا، تفنن أوباما وغيره من ساسة الغرب خلال فترة أكثر من طويلة في إيجاد تنويعات لغوية على مأساة فاقعة، حتى بدا وكأن فبركة هذه اللغة هي المشكلة التي يواجهونها، وليس قتل شعب أعزل تتناقض سياسة نظامه مع الممارسات التي قالوا: إنهم لن يسمحوا بها في عالم ما بعد الشيوعية، الذي زعموا أنه سيكون عالم سلام وأمن وحدود مفتوحة وحريات وتجارة عابرة لأي حدود سيادية، ومجتمع دول تتقيد بقيم تتركز حول الإنسان بصفته فردا مصون الحقوق والحياة، وإلا فإن الدول التي تنظم علاقات المجال الدولي ستسهر على سلامته وتضع حقوقه كإنسان فوق سيادة الدول التي تنتهكها.

تتناقض لغة الكلام إلى أبعد مدى يمكن تصوره مع الوقائع السياسية التي تعتمدها دول «العالم الحر». بما أن الإنسان يصدق في النهاية الوقائع، فإن الغرب يواجه مشكلة حقيقية مع الشعب السوري، وربما العربي والإسلامي، يجسدها فقدان صدقيته وانقلابه من جهة تتقيد بما تقول إلى جهة لا قيم ولا مواقف أو عواطف تحركها، تحاول التستر على فضيحتها بموجات كذب لم تعد تخدع أحدا.

عندما تتكلم لغة السلاح، ماذا يفيد ضحاياها كلام مخادع ليس غير تنويعات مفضوحة على استمتاع أصحابه بموت سامعيه؟