إلى أين يتجه حكم «الإسلام السياسي».. بشقه السني؟

TT

* «على المرء أن يتحلى بذاكرة قوية لكي يفي بالوعود التي يقطع»

(نيتشه)

* تُساق إلى التفكير السياسي الإسرائيلي الكثير من التهم السلبية.. ولكن حتما ليس بينها سوء التوقيت.

لقد جربنا كعرب المرة تلو المرة دقة توقيت ضربات اليمين الإسرائيلي الحاكم بصرف النظر عما إذا كانت منطلقة من منظور استراتيجي متكامل وطويل الأمد، أو من منظور تكتيكي يهدف إلى الخروج من ورطة.. والتقدم خطوة نحو توريط الآخرين.

لا يجوز لأحد أن يُفاجأ، بما يحدث في قطاع غزة؛ إذ كان بديهيا في ظل الإحباط الفلسطيني الناجم عن الانقسام الداخلي والتواطؤ الخارجي، أن يجهض بنيامين نتنياهو «محاولة» السلطة قرع أبواب الأمم المتحدة وإحراق أوراق محمود عباس. فاليمين الإسرائيلي الرافض جوهريا للسلام، حرص دائما على نسف أي مبادرة عقلانية فلسطينية معتدلة، واجتهد في تدمير صدقية أي قائد فلسطيني يتبنى خيار السلام العادل الحقيقي.

لقد وجدت السلطة الإسرائيلية، خصوصا إبان حكم «الليكود»، أن خيارها الرابح دائما تشجيع التشدد والمزايدة داخل الشارع الفلسطيني.. بغية تصدير هذه الصورة إلى داعميها في أميركا والغرب كي تبرر ممارساتها التوسعية والقمعية، إن كان هناك في واشنطن أو لندن من لا يزال بحاجة إلى التستر بـ«ورقة توت» تموه على التزامه التام بدعم تل أبيب!

كذلك بجانب المصلحة الإسرائيلية في تشجيع التشدد الفلسطيني النابع من الإحباط، ثمة مصلحة ثانية تتضح أكثر فأكثر في «تبادل الخدمات» وإرسال «الهدايا السياسية» الثمينة مع وإلى القوى الإقليمية التي تصنف نفسها في خانة الممانعة والمقاومة والعداء لإسرائيل. وهنا من الواجب التمييز بين التشدد الفلسطيني المستند إلى أسباب منطقية مفهومة.. والتشدد اللفظي لبعض القوى العاملة منذ فترة غير قصيرة على استغلال آلام الفلسطينيين ومعاناتهم من أجل زيادة نصيبها من كعكة تقاسم النفوذ الإقليمي مع إسرائيل. وأغلب الظن أن تلويح بنيامين نتنياهو وفريقه، بين الفينة والفينة، بضرب إيران جزء لا يتجزأ من «تبادل الخدمات» و«الهدايا السياسية». والشيء نفسه ينطبق على موقف حكومة نتنياهو من محنة السوريين مع نظام دموي مارس على امتداد أكثر من أربعة عقود دور حارس الحدود الأمين لإسرائيل، وقدم لليمين الإسرائيلي هدية تمزيق «النسيج الوطني» لأحد أكثر المجتمعات العربية ثراء بالتنوع والوعي والاعتدال.

وتوجد مصلحة إسرائيلية أخرى اليوم متصلة بما سبقت الإشارة إليه، تتعلق باختبار نيات الإسلام السياسي السني بعد اطمئنان إسرائيل إلى نيات وأفعال الإسلام السياسي الشيعي سواء من واقع التعايش المريح مع نظام آل الأسد في سوريا، أو تفاهم «الأمر الواقع» الضمني الاستراتيجي مع طهران.. ابتداء من «إيران كونترا» وانتهاء بتولي نوري المالكي الحكم في بغداد.

نتنياهو وأركان حكومته يعرفون جيدا مكونات القوى الإسلامية الفاعلة على الساحة الفلسطينية. ويعرفون الفارق بين مركز قرار «حماس» ومراكز القرار في «الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» ـ بمختلف شظاياها ـ وغيرهما من تنظيمات المقاومة والممانعة المزعومتين.

أيضا لا يخفى على نتنياهو، وكذلك على باراك أوباما وتوني بلير وويليام هيغ، العلاقة الراهنة بين حماس ومحور طهران - دمشق. وكذلك حقيقة أن حماس، وإن كانت القوة المهيمنة على الأرض في غزة، تحاول الآن إعادة رسم أولوياتها بعد انتقال قيادتها من دمشق.. واقترابها من مصر تحت حكم الإخوان المسلمين. يضاف إلى ذلك أن نسبة لا بأس بها من الصواريخ التي أطلقت في الفترة الأخيرة من غزة ما كانت حماس خلفها، مع أن أحدا لا ينفي وجود تيارات وقوى داخل حماس محسوبة، مثل «الجهاد الإسلامي»، على طهران، ومدينة لها ماليا وتسليحيا وسياسيا. وبالتالي، بصرف النظر عن التفاصيل الدقيقة، يظل لافتا توقيت الهجوم على غزة مع خروج حماس من تحت «خيمة» دمشق ومن بيئتها الحاضنة.

باختصار، ظاهريا على الأقل، يبدو غريبا استهداف حماس الآن بعد ابتعادها نسبيا عن محور طهران - دمشق.. واقترابها من القاهرة التي ما زالت تبدو حريصة على الإبقاء على التزاماتها مع إسرائيل.

هذا من ناحية، ولكن من ناحية أخرى يظهر أن الغموض والارتباك اللذين يطغيان على أسلوب حماس في ممارسة السلطة، هما السمتان الأبرز في أسلوب الإسلام السياسي ككل في ممارسة السلطة عندما سقطت في أحضانه. ولئن كان قول الشيء وفعل عكسه التزاما بمبدأ «التقية» هو أساس ممارسة «الشيعية السياسية» الحكم في إيران والعراق.. واستطرادا في سوريا ولبنان، فإن حالة موازية ومشابهة من «التقية» تمارسها الآن قوى «السنية السياسية».

«التقية» التي كانت السلاح الأمضى في ترسانة «الشيعية السياسية» عبر قرون، صارت حالة مألوفة عند بعض القوى السنية الفاعلة، وهي تعايشت معها إبان سنوات الإقصاء والتهميش على أيدي تيارات العروبة واليسار العسكريتاري التي انتهت بأنظمة فاشية عائلية كتلك التي عهدناها في العراق وليبيا وسوريا وغيرها. غير أن المشكلة الآن مع هذه القوى تتمثل اليوم بوجودها في سدة الحكم، ومع الحكم فقدت كل الذرائع التي كانت تستخدمها لتبرير إخفاقاتها.

الإسلام السياسي بوجهه السني مضطر اليوم للتعايش مع واقع السياسة وأثمانها.. وما عاد بمقدوره وعد جمهوره بالجنة. ولعل من مشكلاته الأصعب أن ثمة قوى أكثر راديكالية منه، باتت تتمتع بهامش أوسع للتحرك الحر، وتستطيع أكثر منه قطع تلك الوعود المجانية دون مساءلة، ومن دون الاضطرار إلى تقديم تنازلات تفرضها الضرورات؛ بل إن هذه القوى الراديكالية - الناشطة تحت مختلف الأسماء التكفيرية والجهادية والسلفية – دخلت حقا في تنافس محموم مع الإسلام السياسي السني التقليدي، وبعضها يحظى بدعم مباشر من طهران.. معه أنه في حالة تناقض فكري وفقهي تام معها.

في غزة، وكذلك في بعض أنحاء الضفة الغربية، تشير تقارير إلى تزايد حالات التشيع في ظل تصاعد الخطاب الإسلامي. وفي لبنان يصعب تصور تنامي قوة التيارات الراديكالية السنية بمعزل عن هيمنة حزب الله على البلاد.. سواء كانت هذه الظاهرة ناتجة عن رد فعل أو عن تشجيع غير مباشر من محور طهران – دمشق بهدف إيجاد «البعبع» المناسب للتصدير وإبرازه أمام الرأي العام العالمي.. بعد ربطه بـ«القاعدة» وأشباهها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن لنظام دمشق، بالذات، سوابق مشهودة عديدة في هذا المجال.

ثم يأتي السؤال الأهم، وهو: إلى أي مدى ستستطيع هذه القوى الراديكالية خلخلة الأرضية التي تستند عليها اليوم قوى الإسلام السياسي السني التقليدية، كالإخوان المسلمين في مصر وليبيا، وحماس في فلسطين، و«النهضة» في تونس، وذلك في ضوء ما يحصل في غزة، بالإضافة إلى اضطرار القوى المدنية لمقاطعة صياغة الدستور المصري، وقرار الرئيس محمد مرسي التغيب عن تنصيب بابا الأقباط الجديد؟

العدوان الإسرائيلي على غزة، وبالأخص في توقيته، أخذ في الاعتبار كل هذه العوامل؛ إذ على رأس غاياته: الإمعان في إرباك الساحة الفلسطينية وشل تحركاتها الدولية، وتخفيف الضغط عن نظام دمشق، بل منحه متسعا من الوقت؛ إما للإجهاز على ثورة الشعب، أو الإمعان بتدمير مقومات وحدة سوريا، وابتزاز الإسلام السياسي السني التقليدي وإضعافه.. وكشف عجزه.