حرب «العين والمخرز»

TT

لا فلسطينيي الضفة مسموح لهم الانتماء إلى دولة عادية كباقي دول العالم، ولا فلسطينيي غزة مسموح لهم العيش في بيئتهم الوطنية، ممنوع على الضفة الحصول على وضع الدولة غير العضو في الأمم المتحدة، وممنوع على القطاع كسر طوق الحصار الإسرائيلي البري والبحري والجوي الخانق.

هذا هو، ببساطة، قرار زعيم حزب الليكود اليميني، بنيامين نتنياهو. ومن لا يعجبه القرار يصنف «إرهابيا» بامتياز. فرض أسر سياسي وإنساني واقتصادي جماعي على شعب كامل كان يعتبر، في القرن التاسع عشر، استبدادا استعماريا غاشما بالشعوب المقهورة على أمرها. أما في القرن الحادي والعشرين، قرن الديمقراطيات والحريات، وفي فلسطين بالذات، فليس أكثر من وضع طبيعي يندرج في خانة منح إسرائيل «حق الدفاع عن نفسها».. من أسراها المغلوبين على أمرهم.

إدراك الحكمة من موقف نتنياهو من الفلسطينيين تجربة حارت البرية فيها: يرفض تطبيع وضعهم وإضفاء شكل من أشكال الشرعية الدولية على السلطة الفلسطينية، مع ما يعنيه ذلك من تحميلهم مسؤولية أكبر حيال الأسرة الدولية بأكملها. ويرفض، في الوقت نفسه، إخراج حركة حماس من خانة «الفصيل الإرهابي» ويحتار عبر من يفاوضها على وقف لإطلاق النار بعد كل عدوان على أراضيها.

إذا كان بنيامين نتنياهو مستغنيا عن أي محاور فلسطيني - معتدلا كان أم متطرفا - فذلك يعني أنه لا يملك رغبة، ولا نقول مشروعا، لتسوية ما للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، ما يوحي بأنه مقتنع أن خطة الاستيطان الاستعماري التي يمارسها فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة كفيلة بإلغاء فلسطين من الخريطة وإزالة حق الفلسطينيين في أرضهم.

واضح من حروب حكومات الليكود المتكررة على قطاع غزة أن إسرائيل لا تريد «سلاما». تريد فقط «أمنا» لسكانها ومدنها ومستوطناتها، ما يسمح بالاستنتاج أنه بقدر ما تحرمها صواريخ «حماس» من هذا الأمن.. بقدر ما تصبح أكثر استعدادا للحديث عن السلام.

قد يكون الليكود أسير أيديولوجية استعمارية لم تعد تتوائم مع تطلعات شعوب القرن الحادي والعشرين إلى حق تقرير المصير. ولكن ألا يملك بعض قيادييه رؤية مستقبلية كافية لاستخلاص العبر الواقعية من حربهم الأخيرة على فلسطينيي غزة، وبالتالي الاستنتاج بأن «قبة» السلام المنصف أضمن لأمنهم من «القبة الحديدية؟»

صحيح أن العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة فصل آخر في مواجهة غير متكافئة تقاوم فيها العين المخرز. ولكنها لم تعد تكرارا «طبق الأصل» للمواجهات السابقة بمجرد أن أصبحت إسرائيل عاجزة عن حصرها في نطاق القطاع والكيلومترات القريبة منه. حرب «العين والمخرز» تحولت اليوم إلى حرب صواريخ على «جبهة تل أبيب».

من هنا ضرورة التساؤل: إلى متى يستطيع «الليكود» التعايش مع المعادلة العسكرية الجديدة «لإرهابيي» حركة «حماس» ومواصلة سياسة قطع الطريق على تحول سلطة «المعتدلين» إلى دولة غير عضو في الأمم المتحدة خصوصا بعد أن أدى عدوانه الدموي على غزة إلى إعادة توحيد الفلسطينيين تحت راية نضال واحدة؟

«فضل» نتنياهو في إعادة توحيد الفلسطينيين سيضطره، عاجلا أم آجلا، لاختيار أسلوب جديد للتعامل مع الفلسطينيين: إما أن يصنفهم كلهم «إرهابيين» أو يقبل باعتبارهم مواطنين خاضعين لـ«سلطة»» تملك صفة الدولة غير العضو في الأمم المتحدة وتتقيد بشرعتها ومقرراتها.

واضح بعد التطورات السياسية والعسكرية على الساحة الفلسطينية، والتحولات الجارية على الساحة العربية، أن فرص نتنياهو في مدّ عمر دبلوماسية تجاهل الحل السياسي تتقلص باطراد.

وإذا كان الحصار الإسرائيلي المحكم على غزة لم يحل دون وصول هذا الكم الضخم من الصواريخ إلى القطاع، وإذا كان القصف الجوي والبري والبحري المكثف على بقعة أرض ضيقة تغص بأبنائها لم يثن أهلها عن مقاومة العدوان.. فذلك يستتبع الاستنتاج بأنه، بقدر ما يسرع نتنياهو خطى عودته إلى تسوية «الدولتين المتعايشتين بسلام» فوق أرض فلسطين بقدر ما يحفظ أمن إسرائيل وقلبها السكاني والاقتصادي والصناعي النابض (حتى الآن)، تل أبيب.