مشوار السكة الحديد من 1831 إلى 2012

TT

مصرع أكثر من خمسين طفلا في صدام باص وقطار أسيوط، وقبلها اصطدام قطارين قرب الفيوم، تذهب أبعد من الإهمال الجسيم في صيانة الإشارات التي تضمن السلامة في وسائل المواصلات.

استقالة مدير مصلحة السكة الحديد ووزير المواصلات وحتى استقالة رئيس الحكومة ورئيس الدولة نفسه لن تضمن عدم تكرار الحوادث.

مسلسل طويل من الحوادث (كغرق عبارة البحر الأحمر، وحريق قصر ثقافة سوهاج) راح ضحيتها آلاف المصريين، بدأت بغرق سفينة النيل دندرة، وسقوط الأتوبيس في النيل قرب الدقي في الخمسينات، ولم تمنع الاستقالات تكرارها طوال 55 عاما من حكم العسكر حتى حكم الإخوان..

فضياع أرواح المصريين في حوادث كلها بلا استثناء كان يمكن تفاديها سببه سيطرة ثقافة سياجتماعية على مزاج الأمة المصرية وتغيب عقلها الواعي كما لو كانت تدخن الأفيون جماعيا.

يتظاهر الآلاف من المصريين (بتوحد الناصريين والعروبجية والعلمانيين مع خصومهم اللدودين الإخوان والسلفيين) احتجاجا على مصرع أربعة أطفال في غزة (مع تجاهل تام لمسؤولية حماس في وضع الصواريخ والأسلحة فوق أسطح عمارات سكنية بدلا من إبعادها عن الأطفال)، بينما لا يتظاهرون احتجاجا على مصرع خمسين طفلا مصريا نتيجة جريمة ارتكبتها الحكومات المتعاقبة منذ 1954 في حق السكة الحديد وبقية المرافق!

ثقافة تبدأ من الإهمال الجسيم المتسبب في الحوادث حتى الإهمال الوطني بآيديولوجية تفضل الهتاف للغريب على حب الطفل المصري. ثقافة تتجاوز تخريب البنية التحتية المصرية الحديثة التي بناها محمد علي باشا وأولاده ورواد صناعة نهضة طلعت حرب باشا الاقتصادية، لتمتد إلى محاولات تدمير رموز أعظم وأقدم حضارات البشرية.

ليس مصادفة أن يشكل حادثا قطارات الفيوم وأسيوط إطارا زمنيا لواحدة من أغرب الصور في تاريخ مصر. صورة إنسان غريب الشكل والشأن معا (بجلباب رث ولحية كثة)، يدعو في التلفزيون لهدم أبو الهول والهرم والآثار المصرية اقتداء بهمجية الطالبان في تدمير آثار مملوكة للإنسانية جمعاء، متفاخرا بمشاركته في الجريمة عندما كان عضوا في عصابة «القاعدة» في أفغانستان.

الدعوة لتخريب آثار مصر هي امتداد لثقافة القبح السائدة التي أفسدت الذوق والشوارع والمعمار والفن، وحتى الأزياء.

ولتقارن مثلا بين أسلوب ولغة ولهجة الرد على التليفون اليوم بسلوك عام 1950، أو ملابس وسلوك الحضور في حفل معاصر بسلوك آبائهم وأمهاتهم بأناقة وتحضر أذواق رواد أوبرا فيينا عند حضورهم حفلا لأم كلثوم في الخمسينات (وأتحدى فناني مصر اليوم أن يخرجوا لنا مجتمعين بما يضاهي مقطعا واحدا بمستوى أداء أم كلثوم للحن للسنباطي أو الشيخ زكريا أحمد).

القبح وكراهية المصريين المعاصرين للجمال والتحضر، بل ولأنفسهم، هو ثقافة سياجتماعية سائدة بدأت بتخريب نظام الكولونيل عبد الناصر وشلة الضباط المنعدمي الثقافة والخبرة للبنية التحتية المصرية بداية بالسكة الحديد التي أسسها محمد علي باشا وأولاده في 1831.

مد عبد الناصر في عام 1959 مخالبه محاولا انتزاع قضبان الإكسبريس على خط سكة حديد مصر إسكندرية الذي اكتمل عام 1851 لينقلها إلى سوريا لمد خط سكة حديد إلى حلب. أطماعه الآيديولوجية بمد مشروعه السياسي إلى بلاد الشام أنسته مصر، فلم يحفل بإعادة السكة الحديد مائة عام إلى الوراء مقابل أن تخرج جماهير حلب للترحيب بزعيم «العروبة» الذي يفرقع الشعارات في الهواء.

ولأن مهندسي السكة الحديد كانوا الجيل الذي تعلم الوطنية في مدارس وزير المعارف طه حسين قبل أن يخربها مشروع التربية والتعليم، فقد نجحوا في إنقاذ سكة حديد مصر إسكندرية من تخريب «الوحدة». لكن الفيروس كان قد تمكن من الجسم المصري لتظهر أعراض المرض بعد نصف قرن في التلفزيون في عبارة «طز في مصر» على لسان زعيم جماعة تكنّ العداء للناصرية لكن تشاركها الثقافة السياجتماعية التي تقدم التراث الحضاري المصري (وحياة خمسين طفلا ضحية قطار الإهمال والتخلف) قربانا على مذبح الأطماع السياسية والسخافات الآيديولوجية.

إنها الثقافة نفسها التي أجهزت على أهم صناعتين مرادفتين للبنية التحتية التي أسسها محمد علي، صناعتي الصيانة وأمن المرافق.

أول رحلة قطار أتذكرها من الإسكندرية إلى القاهرة كطفل بصحبة جدي عام 1948 في ديوان السكوندو (الدرجة الثانية، وهي الوسط بين البريمو أو الأولى، والترسو أو الدرجة الثالثة). مقاعد من الجلد الوثير، والمرايا، وصور الآثار على ضوء الأباجورات، وابتسامة ساعٍ نوبي بكرافتة وطربوش يقدم المرطبات على صينية فضية. أما كمساري القطار فكان في أناقة كل أفندية مصر الذين احتذوا بهندام وأناقة الملك فؤاد.

ثقافة القبح أجهزت على صناعة الصيانة، ولا توجد ميزانية تذكر للصيانة في المصالح الحكومية المعنية بالمرافق العامة. وبدلا من الحفاظ على البنية التحتية والأصول الثابتة التي تأسست ما بين 1810 و1950 تترك للتخريب ويعاد استيراد بدائلها كل بضع سنوات بأموال مضاعفة. وكان المصير نفسه من نصيب صناعة السلامة أو أمن المرافق، ومهمتها تجنب الحوادث، كغرق العبارة وتصادم القطارين ومصرع الأطفال.

واختتم النقد باقتراح بناء من خطوتين: تطرح وزارة الأشغال المصرية مناقصة عالمية لتكليف شركات ألمانية أو سويسرية بتولي الصناعتين. واحدة لصيانة جميع المرافق والموانئ والكباري والسكة الحديد والطرق والمستشفيات ومباني الحكومة. والأخرى تتولى صناعة الأمان وسلامة المرافق برأسمال الشركات الأوروبية الخاصة. الحوافز هي الإعفاء التام من الضرائب لمدة عشر سنوات. هذا لن يضمن العودة بمستوى الأمان والسلامة والنظافة إلى ما قبل 1952 فحسب، بل يخلق آلاف الوظائف للمصريين ويشغل الورش المصرية لإنتاج قطع الغيار، ويدرب جيلا من المصريين على صناعة الصيانة، ويوفر للخزانة المليارات التي تهدر باستيراد الجديد بدلا من الحفاظ على ما هو موجود وصيانته.

الخطوة الثانية من مهام البرلمان الجديد فور انتخابه إصدار تشريع يجعل مخالفات الإهمال في أي مرفق عام يستخدمه الناس، أو صناعات الصحة أو المأكولات، جزءا من القانون الجنائي بدلا من مخالفات اللوائح التجارية، حيث يكون مصير مهندس أهمل تصميم إشارات القطار أو عامل ترك المزلقان مفتوحا السجن بتهمة القتل غير العمد، وليس فقط تغريم الشركة أو المصلحة.

فقط عند تنفيذ الاقتراح (أو اقتراحات مشابهة) نعرف أن الحكام جديرون بالوظيفة التي عينهم فيها الناخب عبر صناديق الاقتراع، وليسوا مجرد قادة مظاهرات غوغائية تشجب وتندد وتزعق في قضايا لم تخطر ببال من ثاروا في 25 يناير.