بئس الرجولة!

TT

بعد القنابل والرشاشات والقذائف، صارت في متناول المعارضة السورية صواريخ «أرض - جو» لإسقاط المقاتلات، وهي تطالب بالمزيد. وسبق المعارضة السورية الثوار الليبيون الذي حصلوا على كل ما اشتهوا من أسلحة، حتى باتوا من أهم الموردين لها في المنطقة. وما عدت تسأل عن سلاح ثقيل أو خفيف يصل إلى مصر أو سوريا أو غزة حتى يقال لك إن ليبيا هي المصدر والأساس، إلى جانب إيران بطبيعة الحال. وليبيا وما لها من تجار ومهربين محترفين صارت فرجا للمقاتلين في غزة، لكنها نقمة على جيرانها أجمعين، ويبدو أن التعاون المصري - الجزائري - الليبي، والتنسيق التونسي، لا يجديان كبير نفع، لوقف التهريب في الشمال الأفريقي، بوجود صحارى ممتدة، وحدود عصية على الإحكام.

واضح أن السلاح في المنطقة بات أكثر من الخبز، وأوفر في أيدي الفقراء والمعوزين. ففي اليمن المدقع أشارت إحصاءات حتى قبل بدء الثورة إلى وجود أكثر من ستين مليون قطعة سلاح لعدد سكان يقدر بعشرين مليون نسمة، أي ثلاث قطع لكل فرد، مع إمكانية شراء المدافع والقنابل والصواريخ، فكيف هو الحال بعد الثورة والفلتان المستجد؟

وكان المواطن العربي ذات يوم، في ظل الأنظمة القمعية، يسجن بسبب «موسى» في جيبه، فبات يتجول بقذائف على كتفه. والأمر لا يتعلق فقط بالبلدان التي اندلعت فيها ثورات، وهنا المحنة. الأسلحة باتت تسافر بأسهل مما يتنقل الأفراد الذين ما زالت الحدود العربية مقفلة في وجوههم. فتهريب السلاح من الأردن إلى سوريا، والعكس، يؤرق السلطات هناك التي أعلنت الحياد تجاه ثورة يمكنها أن تشعل كل ما حولها. لكن المظاهرات الأخيرة، وما رافقها من أعمال احتجاج وظهور مسلحين في أماكن عدة ينبئ بأن الوضع في الأردن ليس ممسوكا كما كان، والآتي قد يكون أعظم.

محاولة عسكرة المنطقة العربية ليست بالأمر المستجد، وإن توسعت رقعة التسليح بعد الثورات وفتحت خطوط ما كانت بالحسبان. مع دخول الأميركيين إلى العراق، وتبخر أسلحة أميركية متطورة جدا من الثكنات، تبين في ما بعد أن بعضها نقل عبر سوريا إلى لبنان وصارت له أسواق في بعض المخيمات، وعلم أن السلاح الحديث الذي واجه به تنظيم «فتح الإسلام» المتطرف الجيش اللبناني ما يزيد على ثلاثة أشهر كان مصدره العراق، وكان منقولا للمخيم للبيع قبل أن يتركه أصحابه لمقاتلي «فتح الإسلام» ويفروا بجلدهم.

اليوم تعددت المصادر والغايات من توزيع السلاح في المنطقة العربية. والأسوأ هو التنافس بين جهات مختلفة على إمداد أفرقاء متباغضين بأشد الأسلحة تطورا وفتكا. ويشي المشهد العربي العام بما يشبه حال لبنان خلال الحرب الأهلية، حيث لكل فريق من يسلحه ويدعمه معمما على مساحة أكبر وأشمل تمتد من اليمن وحتى الحدود المغربية.

والفرح الكبير بقدرة حماس على ضرب إسرائيل بصواريخ عابرة للمدن، كما حدث في الحرب الأخيرة، يقابله خوف من كميات الأسلحة، التي لم تدخل غزة بعد ولا تزال مكدسة في سيناء بعد وصولها من السودان أو ليبيا، ولا نعرف إن كان التجار ينوون تهريبها إلى القطاع، أم سيبيعونها لمخربين وإرهابيين يعيثون فسادا في مصر.

ومقابل عشرات آلاف الصواريخ التي يملكها حزب الله ويعلن أنه يستطيع أن يصل بها إلى تل أبيب وما بعد تل أبيب، ثمة حركة تسلح داخلية في لبنان مرعبة، يقول القيمون عليها إنها لمواجهة حزب الله والتيار الإيراني. وبينما يتم تسليح المعارضة السورية من مصادر عديدة عربية وغربية حيث لا تخفي فرنسا ودول أوروبية غيرها رغبتها في ذلك، لا تتوانى روسيا وإيران عن دعم النظام السوري بأسلحة فتاكة لتجعله يقاوم السقوط لأطول مدة ممكنة.

وهناك تسليح وتسليح مضاد في دول عربية عديدة، بعضها بات معروفا والبعض الآخر قيد الإشهار. وما نحن مقدمون عليه ليس تحولات سلمية لثورات عفوية، بقدر ما هو استغلال قذر لغضب شعبي عارم، من جهات خارجية متصارعة، تعيث فسادا في كل مكان تهب فيه رياح الرغبة في التغيير.

«السلاح زينة الرجال» عند العرب.. ربما كان هذا صحيحا أيام عنترة بن شداد، لكن السلاح الذي يكدس في المنطقة العربية اليوم، سواء من قبل الحكومات أو المعارضات، ويدفع ثمنه بمئات المليارات، بينما تترك الشعوب معوزة وجائعة، لم يسقط منه على إسرائيل لغاية اللحظة سوى بضعة آلاف من الصواريخ أطلقتها حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله، دون أن تحدث أضرارا بليغة ودمارا كبيرا. أما ما تبقى من غابات الأسلحة المكدسة عندنا فهو ما يستخدمه العرب أنفسهم ويتفننون في استعماله والتباهي به لتدمير بلدانهم.. وهو أيضا ما أحرق سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان، والحبل على الجرار.

آن إذن لإسرائيل أن ترتاح لخمسين سنة مقبلة، وهي تتفرج على القبائل العربية المتناحرة، ولمصانع السلاح الغربية أن تتفاءل بأن عجلتها ستبقى تدور وتدور، وتحصد المليارات، وهي تدهس جثث أطفالنا وكهولنا وتحرمنا خيرة شباننا.