بين إسطنبول والقاهرة.. والأمر لله

TT

حزني على القاهرة لا يدانيه إلا عشقي لترابها. وكم يحز في نفسي أن أرى مصر تهون وتتخلف والعالم حولها يتقدم. كنت في إسطنبول لأمر يتعلق بعملي ورأيت كيف تزدهر تلك المدينة التاريخية عن كل مرة سابقة رأيتها فيها. والمؤلم أنني ما ذهبت إلى مكان على هذه الأرض وإلا وحملت مصر في قلبي وعقلي ووجداني ويزداد هذا الألم كلما قارنت بينها وبين غيرها من بلاد كانت وراءها في كل ناحية وأصبحت أمامها في كل المجالات.

لماذا هذا الذي كان وكيف يمكن مواجهته. تقديري – وجل من لا يخطئ – أن ذلك يرجع إلى أمرين اثنين متكاملين، أما أولهما فهو النظم الديكتاتورية التي عاشت في ظلها مصر ردحا طويلا من الزمن. والديكتاتورية كما قلت مرارا لا تأتي بخير قط. ونتائج الديكتاتورية وبيلة دائما والتاريخ شاهد على ما أقول. ولن نعود إلى التاريخ القديم، ولكن دعنا نطالع ما حدث في القرن الماضي من أنظمة ديكتاتورية.

هناك أمثلة ثلاثة شاهدها العالم في القرنين الماضيين وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية. أما التجربة الأولى فقد كانت التجربة الستالينية في روسيا السوفياتية والتي انتهت بتدمير روسيا وتدمير الماركسية وانعتاق بلدان أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي من الطغيان والديكتاتورية.

أما التجربة الثانية فكانت تجربة إيطاليا الفاشية على يد الديكتاتور موسوليني والتي انتهت بهزيمة إيطاليا هزيمة منكرة في الحرب العالمية الثانية وانتهت أيضا بتعليق الدوتش «موسوليني» على شجرة لتأكل الطيور من جسده.

وأما التجربة الثالثة البشعة فكانت تجربة ألمانيا النازية. نجح هتلر في الانتخابات التي تمت في ثلاثينات القرن الماضي بأغلبية كاسحة نتيجة التنظيم المحكم والدعاية الموجهة والمؤثرة في جماهير كانت حانقة على جمهورية «فايمر» متطلعة إلى ما هو أفضل. وجاء هتلر وأقام حكما ديكتاتوريا نازيا بشعا وشن الحرب على بلدان أوروبا وابتلعها واحدة واحدة ثم انتهى به الأمر نهاية كل ديكتاتور طاغية. انتهى به منتحرا لا يبكي عليه أحد ويلعنه الناس جميعا داخل ألمانيا وخارجها.

هذه أمثلة ثلاثة واضحة للحكم الديكتاتوري ونتائجه. حقا الديكتاتورية لم تأت ولن تأتي بخير قط حيث كانت في أي بلد من بلاد العالم.

وقد عاشت الكثرة من الدول العربية وما زالت أغلبها تعيش في ظل أنظمة ديكتاتورية. وهذا هو السبب الأول من الأسباب التي جعلتنا وأخص بالذكر مصر – التي في خاطري وفي دمي – وراء دول لم تكن شيئا مذكورا يوم أن كانت مصر درة وأصبحت الآن وراء الجميع نتيجة الحكم الديكتاتوري الذي رزحت تحته عقودا والذي يبدو أنه يطل بوجهه الكئيب من جديد والعياذ بالله.

أما السبب الثاني من أسباب التخلف الذي نعانيه في مصر – وفي كثير من الدول العربية – فهو عدم الاستنارة العقلية بل غلبة التفكير المتخلف غير العلمي.

في أعقاب ثورة 1919 التي آذنت بقدر من الديمقراطية شاهدت مصر استنارة عقلية وثقافية وفنية. برز طه حسين ومدرسته وبرز العقاد وتلاميذه ولمع سلامة موسى وحواريوه. ولا يستطيع أحد أن يغفل في تلك الفترة توفيق الحكيم ومسرحياته ويومياته ولا نجيب محفوظ ورواياته الكثيرة التي خلطت السياسة بالرواية وأثرت العقل المصري بل والعقل العربي كله أيما إثراء.

وأنجبت تلك الفترة أيضا أم كلثوم سيدة الغناء العربي التي قدمت عن حياتها رسائل للدكتوراه نوقشت في بعض كبريات الجامعات الأوروبية وكذلك محمد عبد الوهاب الرائع العظيم. هذا بعض ما أنجبته ثورة 1919 التي بشرت بقدر ولو محدود من الديمقراطية. وهكذا تثمر الديمقراطية التقدم والاستنارة.

ومرت على مصر خلال العقود الثلاثة الماضية – إن لم يكن أكثر – فترة طغيان وديكتاتورية أدت إلى استنزاف كل مظاهر التقدم والاستنارة وجعلتنا وراء شعوب الأرض جميعا للأسف الشديد. ثم جاءت بارقة أمل في 25 يناير ولكنها سرعان ما خبت وراودنا الحنين إلى الطغيان من جديد.

ولكن مصر وكثير من أبنائها المستنيرين المحبين لها مصممون على إنقاذها من وهدتها. والله معهم. والله في عونهم. وستنهض مصر بإذن الله.