عرف الطيران ونسي الهبوط

TT

جاء عباس ابن فرناس إلى قرطبة لكي يعمل مع زرياب، المغني الذي استقدم من بلاط بغداد إلى عاصمة «الخليفة الحقيقي». لكن ابن فرناس أبلى في علوم أخرى، كصناعة الزجاج، وأهدى عبد الرحمن الثاني نموذجا للنظام الشمسي صنعه من أفخر الزجاج. ولن يتوقف عباس عند ذلك.

ذات يوم رأى بهلوانا معروفا في المدينة يقفز من أعلى مئذنة الجامع الكبير. تحطم الرجل قليلا لكنه لم يمت. لكن ابن فرناس لاحظ أن المشكلة كانت في الثوب الذي يرتديه والجناحين اللذين حاول الطيران بهما.

المسألة كلها في الثوب. في الأجنحة. إذا صنع ثوبا محكما سوف يكون أول من يستطيع الطيران. ولن يعود مجرد عضو في دائرة الغناء عند زرياب. لكن المشروع استغرق من ابن فرناس 23 عاما من الدرس. وفي السبعين من عمره دعا أصدقاءه وعلماء البلاط إلى مشاهدة ما لم يشهده أحد من قبل: رجل يطير.

كأنك تشهد اليوم الرياضة الشائعة حاليا في معظم البلدان. ذهب عباس إلى جبل في أطراف قرطبة حيث كان يراقب كيف يحمل الهواء الطيور، وارتدى ثوب الحدث، وله جناحان صنعا من الحرير والخشب وألصق بهما الريش. كانت الرياح شديدة فانتظر أن تهدأ، فاندفع راكضا مسافة قصيرة ثم قفز في هواء الأندلس.

تعرقت صدور المشاهدين من حرارة الأنفاس. ها هو عباس يطير مثل عصفور ضخم، يحمله الهواء بدل أن يسقط. دقيقة، اثنتان، عشر دقائق والرجل يحلق في فضاء الوادي الكبير، من تحته بساتين البرتقال وحقول البقدونس والبقول التي أحضر بذرها زرياب من بغداد.

لكن عندما يبدأ عباس بالهبوط يتذكر، مبتعدا، أنه أتقن عملية الإقلاع والحوم، وفاته أن الهبوط السريع قد يكون قاتلا. في مراقبته للطيور لم يتنبه إلى أن الأجنحة تساعدها على التحليق والذنب يمكنها من الهبوط الهادئ. سقط على رأسه وسمع صوت عظامه تطق. وعندما أفاق من إغماءته وجد الناس حوله، وكان بعضهم قد رافق رحلته القصيرة على الخيول، لكي يقدموا له المساعدة إذا احتاجها.

عاش ابن فرناس بعد ذلك 12 عاما وهو يعاني من ألم شديد في ظهره. لكنه انصرف إلى بناء مجسم النظام الشمسي، بساعاته المائية ومحاكاة صوت الرعد وبرق العاصفة. لو أنه راقب فقط كيف يستخدم الطير جناحيه وذنبه و«قدميه» لكي يخفف سرعته في الهبوط.

بقي في ذاكرتنا أن المغني العبد زرياب الذي وجد نفسه حرا في قرطبة، كان غارقا بالموسيقى والطرب. لكن الرجل كان مجموعة معارف في آداب السلوك وفي فنون الطهي وفي الزراعة وغيرها.. ذلك أن زمانه كان زمن علوم ومعارف. ولو تنبه ابن فرناس للذيل والمخالب لبدأ الريادة في الطيران.