مصر في منحنى الخطر

TT

مصر تقترب من حافة عتبة العنف، أو بشكل أكثر دقة ثورة مصر تبدأ منحنى الخطر، فهذا هو الشعب في ميدان التحرير وميادين الوطن الأخرى في الإسكندرية والسويس يطالب الرئيس مرسي بالتراجع عن إعلانه الدستوري الذي حوله إلى الفرعون الذي لا يُسأل عما يفعل، وبدلا من أن يستجيب الرئيس إلى هذه النداءات أو يتراجع صعّد وزاد في غطرسته وغطرسة جماعة الإخوان بأن دعا لجنة تأسيسية الدستور الإخوانية إلى إنهاء أعمالها بسرعة وتسليمه مسودة الدستور. ليس هذا فحسب، بل دعت جماعة الإخوان في اليوم ذاته الذي سلم فيه المستشار الإخواني الغرياني مسودة الدستور إلى مليونية الشريعة، في استعراض للقوة يمنح الرئيس الزخم الشعبي المطلوب لفرض الأمر الواقع وعدم التراجع.

ولم يخيب مرسي ظن جماعته، بل وخطب فيهم، وطلب الاستفتاء على الدستور الإخواني يوم 15 من هذا الشهر الميلادي، وهي خطوة تصعيد أخرى من «الإخوان» ضد معارضيهم. الرئيس خطب مرتين منذ الأزمة، وكلا الخطابين كان لأهله وعشيرته، سواء الذين تجمعوا لتأييده أمام قصر الرئاسة في «الاتحادية» منذ أيام، أو الذين جاءوا ليؤيدوه من المحافظات والأقاليم يوم السبت، يوم سبت الشريعة والنداء للاستفتاء على الدستور. وبهذا لم يدع مرسي مجالا للشك في أنه رئيس للتيار الديني فقط وليس لكل المصريين. فمن كان لديه شك في خطاب الرئيس الأول بأنه خطاب تفرقة وطن لا خطاب لم الشمل، خطاب للإسلاميين والمؤيدين فقط قسم الوطن إلى معسكرين، فإن هذا الشك أصبح يقينا في خطاب السبت الذي دعا فيه الرئيس إلى استفتاء شعبي على دستور مطعون في شرعية من وضعوه (فالجمعية التأسيسية أسسها برلمان باطل).. دستور مشوه ترفضه قطاعات عريضة من أبناء الشعب المصري.

كان واضحا للجميع أن الرئيس أعجبته كثرة جماعته، لذا لم يتردد في التصعيد. فمرسي لم يلق كلمته إلا بعد أن تجمعت حشود التيار الإسلامي أمام جامعة القاهرة. وما بين خطابه في «الاتحادية» وخطابه لأعضاء الجمعية التأسيسية، الذي كان بلا شك خطابا لحشد «الإخوان»، مر أسبوع احتشدت فيه قوى المعارضة في ميدان التحرير بمئات الآلاف، واعتصمت من حينها وحتى اليوم، ولم يعرها الرئيس أدنى اهتمام، ولم يتحدث إليها، ولم يلتفت إلى مطالبها. الرئيس مرسي يتحدث لـ«الإخوان» وللتيار الإسلامي فقط «واللي مايعجبهوش يخبط راسه في الحيط». هذا التحدي السافر لقطاعات عريضة من المجتمع المصري يأخذ الثورة بعيدا عن أحاديث الأسابيع الفائتة، تلك الأحاديث المتحضرة حول الدستور والقانون، ويأخذ الوطن إلى منحنى الخطر والتهاب المشاعر الذي يدفع بالثورة المصرية إلى حافة العنف المجتمعي الأوسع.

سلوك جماعة الإخوان المسلمين منذ الإعلان الدستوري الذي حصن الرئيس ضد أي حكم قضائي، وخطب الرئيس التي اقتصرت على جماعته، وسلق الدستور في ليلة واحدة، والدعوة للاستفتاء على دستور «الإخوان» بهذه العجلة، أمور لا يمكن تفسيرها إلا بسياسة فرض الأمر الواقع. لسان حال الرئيس وجماعته يقول إن المعارضة بالنسبة لـ«الإخوان» أيا كان حجمها ليست مهمة. «الإخوان» في السلطة الآن، وعلى المعارضة أن تنصاع إلى أوامرهم. هذا السلوك المتغطرس من الرئيس وجماعته لا يصب في أي صيغة من صيغ التصالح الوطني، وإنما يصب في توسيع هوة الشقاق بين «الإخوان» ودعاة الدولة الدينية من ناحية، ودعاة الدولة المدنية من ناحية أخرى. منذ قرر مرسي أن يلقي خطابه الثاني فقط لجماعته، ومنذ دعوته إلى الاستفتاء على الدستور، ونبرة العنف تزايدت في مدونات الشباب على «تويتر» و«فيس بوك»، كرد فعل لخطاب الرئيس، ورد فعل لجو العنف والتكفير الذي خلفته مليونية الشريعة. نغمة كانت مختفية لكنها الآن تحولت إلى لهجة جديدة فيها مسحة عنف تصاعدية لا تبشر بخير بالنسبة لمستقبل الدولة المصرية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني).

رغم أن الدائرة في مصر انقسمت إلى تيار ديني وتيار مدني، فإن المسكوت عنه في المشهد هو تلك الكتلة البشرية التي أُخذت وكأنها جماعة مسلم بها لا حول لها ولا قوة، وهي جماعة المسيحيين المصريين الذين يمثلون نسبة من 10 في المائة إلى 15 في المائة من تعداد السكان المصريين. لا ندري ماذا سيكون رد فعل هؤلاء، فرغم أن سلوكهم السياسي في الغالب وخلال العهود السابقة كان سلوكا تصالحيا، فإن مسيحيي مصر قد تغيروا بعد الثورة، ولا يمكن توقع رد فعلهم في قضية حاسمة مثل قضية الدستور، وهناك مؤشرات كما جاء في تقارير في هذه الصحيفة أن الكنيسة قد تقاطع الاستفتاء على دستور لا يمثل الأقباط.

في الأسبوعين القادمين سيتحول الصراع المتحضر بين القوى المختلفة في مصر إلى صراع عنيف، لكنه سيبدأ كصراع بالوكالة، مثل مناوشات بين ميليشيات «الإخوان» ومشجعي الأندية الكبرى المعروفين باسمهم الغربي «الألتراس» (ultras)، أو المتعصبين لأنديتهم الكروية. «الألتراس» لمن لم يشهد بدايات الثورة المصرية هم الذين هزموا جحافل داخلية حبيب العادلي.. «الألتراس»، وليس القوى الثورية، هم القوة التي حسمت مصير الثورة، وهزمت البوليس وقنابل الدخان والرصاص المطاطي. وظني أن «الألتراس» سيُستخدمون في المواجهة القادمة بين التيار الديني والتيار المدني، وستكون تلك هي شرارة العنف التي لا ندري إلى أين ستذهب.

في حواره مع «الشرق الأوسط» الأسبوع الماضي تحدث القيادي في الجماعة الإسلامية ناجح إبراهيم عن سلسلة من الاغتيالات للرموز الفكرية والثقافية والليبرالية، ومن لا يعرف ناجح إبراهيم فإنه كان أمير الجماعة الإسلامية في أواخر السبعينات حتى اغتيال السادات 1981. ولم يكن ناجح إبراهيم أمير الجماعة الإسلامية فقط، بل كان أمير العنف في أسيوط وما حولها، وكونه يلمح إلى اغتيالات فهو بالتأكيد يشتم رائحة دم في الهواء.

ما أريد قوله أن سلوك الرئيس مرسي، الذي لم يترك مجالا للشك في أنه رئيس جماعة الإخوان المسلمين فقط أو رئيس التيار الديني إذا أردت أن تكون كريما في التوصيف، وتعنته وإصراره على عدم التراجع عن إعلان دستوري، جعل منه فرعونا يتضاءل أمامه أي ديكتاتور عرفه التاريخ المصري الحديث. هذا السلوك وهذا التعنت لن يولدا إلا مزيدا من التعنت من الناحية الأخرى. ليس من الوارد أن يرفع الشعب المصري الراية البيضاء ويذعن بهذه السهولة الشديدة لتملك جماعة الإخوان المسلمين من «زمارة» رقبة الوطن. لا أتصور أن المعركة ستحسم هكذا برفع الرايات البيضاء، لا بد من مقاومة. لكن كيف ستكون تلك المقاومة؟ وهل سنصل إلى حالة تقسم مصر إلى شيء يشبه حالة الانقسام الفلسطيني بين حماس وفتح، ونرى الجثث تلقى من فوق البنايات كما رأينا في غزة يوم انقلاب حماس على فتح.. أم سيكون انقساما أشبه بانقسام لبنان؟ هذا ما لا يمكن التنبؤ به. ما يمكن التنبؤ به بلا شك هو أن مصر دخلت منعطف العنف الذي نتمنى أن يكون له مخرج قريب، أما إذا لم يتوافر المخرج فسيكون هذا البلد الكبير الذي أصبح على حافة الإفلاس، والذي أعلن الاتحاد الأوروبي أنه سيقاطعه اقتصاديا - وقد تتبع دول أخرى الموقف الأوروبي - على حافة الهاوية. وإذا ما دخلت مصر وهي مفلسة وتحت حصار اقتصادي في صراع مجتمعي عنيف فإن أتون العنف قد يتصاعد لدرجة يصعب الخروج منها، وبتكلفة لا يطيقها حتى «الإخوان المسلمون» أنفسهم. فهل أدرك المصريون الثمن الذي سيدفعونه قبل أن يدفعهم العناد إلى حافة الجحيم؟