تحالف ليبرالي إسلامي لإنقاذ مصر

TT

منذ أن أرست مصر المحروسة حياتها الدستورية (1923)، فقد برهنت اللعبة السياسية، على أن من السهل حكمها، ومن الصعب إدارتها، كان من السهل على حزب الأغلبية الليبرالية (الوفد) أن يتسلم الحكم، كلما فاز في الانتخابات، لكن ما إن يمارس إدارته، حتى تتكسر العصي المتعثرة في عربته، وتتم إقالته مرارا وتكرارا.

ترهل الوفد، شاخ زعيمه مصطفى النحاس، وغادره مكرم عبيد (1943) سكرتير الوفد ومحرك الحياة السياسية المصرية، وحل محله الباشا الإقطاعي إسماعيل سراج الدين.

بشر اللواء محمد نجيب بالديمقراطية، بعد الانقلاب العسكري (1952). فقلب حكمه قائد الانقلاب الحقيقي نائبه جمال عبد الناصر. وحتى ناصر الذي ألغى السياسة، وجد صعوبة في إدارة المحروسة، بحزبه الأوحد (الاتحاد القومي في الخمسينات والاتحاد الاشتراكي في الستينات).

بجرة قلم، حكم أنور السادات مصر. سرح الجناح الناصري السلطوي الحاكم (1971). تأسلمت المحروسة و«تأخونت» بنصيحة أميركا.

فاغتال الإسلام «الجهادي» السادات، بعد عشر سنوات (1981). خرج نائبه الفريق حسني مبارك، من بين كراسي منصة الاغتيال، فدانت مصر له طائعة. فحكم بسهولة. مع «شوية» ليبرالية سياسية وصحافية، ومكافحة نسبية للفساد، وللإخوان، وإعادة المحروسة إلى الحضن العربي.

شاخ مبارك. فترهل النظام. خلي بالك من زوزو والأولاد. اتسع الفساد. ثم كانت النهاية بالإعلانات الاستثنائية السلطانية. ضاقت المحروسة بالحال. انتفضت. فلم يهرب مبارك اقتداء بزين العابدين. حار القضاة. ماذا يفعلون بالرئيس السجين. حكموه بالمؤبد. وأبدوا استعدادهم للإفراج عن ولديه ورجال السوء في بطانته، إذا أعادوا ما لله لله.

نحن اليوم أمام حالة مصرية غريبة وخطيرة: رئيس آت بالقرعة الإخوانية على بساط الريح. وانتخب بأغلبية ضئيلة أمام معارضة مليونية صلبة، من دون أن يعرف ملايين الذين انتخبوه. أو عارضوه، شيئا عنه، سوى أنه مدعوم من مرشد معصوم (غير منتخب أو مفوض من الشعب) ومن دولة كبرى رئيسها باراك بن حسين أوباما.

في طيبة عفوية، تقبل تسعون مليون مصري نتائج الانتخاب. احترموا مصداقية الرقم الرسمي المعطى لهم، أكثر من احترامهم وثقتهم بحزب غيبي مغلق رشحه. وضمن رشده ورشاده، من دون أن تكون لهذا الحزب مرجعية مسؤولة أمام الدولة والمجتمع. ومن دون أن تكون له تجربة سابقة في الحكم والإدارة. ومن دون أن يحسم موقفه من العصر.

ديمقراطية الاقتراع تفويض لشخص وحزب بالحكم. لم يحكم الإخوان! خطفوا الانتفاضة. الرئاسة. الحكومة. اعتمدوا الشطارة و«الفهلوة» فأعادوا غزة إلى الحصار. وثبتوا هدنة بين إسرائيل وحماس. هذه الهدنة أشد خطرا وسوءا من المفاوضات والمعاهدات مع العدو. فهي تقيد حماس. وتمنح إسرائيل حرية التوسع. والاستيطان. والاحتلال. والاعتداء، في غياب نص تعاقدي ملزم للطرفين.

بعد «فهلوية» غزة، و«فهلوية» تحييد المجلس العسكري، تم اعتماد «الفهلوة» في إصدار إعلان سلطاني، يحيد سلطة القضاء التي كانت ضامنة لعدم انحراف سلطة الحكم. ويعفي الرئيس من المحاسبة الدستورية.

في كنف هذه «الحضرة السلطانية» تم استيلاد دستور غير مستكمل، من رحم جمعية تأسيسية معرضة للإلغاء. وانسحبت منها القوى الليبرالية. واليسارية. والإسلامية المستقلة. والأقلية الدينية (الأقباط). وخلافا لكل الضمانات. والتعهدات المسبقة، بتقوى الله، وعدم احتلال البرلمان وإشغال الرئاسة، فقد تم «سلق» الدستور. تسلمه الرئيس. وقعه، من دون أن يقرأه. وطرحه فورا على الاستفتاء الشعبي، من دون أن يتيح فرصة كافية (شهرا على الأقل)، ليفسح المجال أمام حوار شعبي. سياسي. دستوري. فقهي.

وهكذا سيكون لمصر دستور مثير للجدل في غموضه وتناقضاته، تم إنتاجه في مصانع الاستفتاءات الشهيرة الناصرية. الساداتية. المباركية التي لم تحظ بمصداقية شعبية أو دولية.

يجري كل ذلك وسط انقسام شعبي هائل. وصدامات شارعية وسياسية، توحي بالخوف على مصر المحروسة التي أمن القرآن الكريم سلامها. وسماحتها. وفي غمرة حمى أميركية حامية ضد قضاة مصر، بحجة أنهم «قضاة مبارك» الذين يعرقلون حكم وإدارة الإخوان. ويهددون الدستور. والجمعية التأسيسية. ومجلس الشورى. بالإلغاء قضائيا.

هل هناك ثورة في مصر؟ هناك انتفاضة شعبية عارمة تعبر عن خيبة أمل، وعدم ثقة في نظام الإخوان. لا يستطيع نظام الإخوان «فرم» مئات الألوف. الصيحات الإخوانية الداعية إلى «الفرم» كانت منفردة ومعزولة، حتى السادات الذي أدخل مفردة «الفرم» القاموس السياسي لم يفرم أحدا، أو بالأحرى تم «فرمه» قبل أن يفرم غيره.

أتفرس في مرآة الانتفاضة الجديدة. أرى شبابا أحدث سنا. وجوها غائمة لا تحمل تعبيرا سياسيا وآيديولوجيا. لكنها أكثر فقرا. تصميما. غضبا. توترا، من جمهور الانتفاضة على مبارك. الأهم والأبرز أن القيادات السياسية الليبرالية. واليسارية. والإسلامية المستقلة التي قادت المواجهة مع نظام مبارك، في السنوات العشرين الأخيرة، قد استعادت المبادرة اليوم من الإخوان. وهي التي توجه. تسيطر. تضبط هذه الجموع الجديدة.

كعربي، أملك الجرأة الشخصية لتلخيص هذه القيادات بأربع شخصيات: حمدين صباحي. عمرو موسى. عبد المنعم أبو الفتوح. محمد البرادعي. ووراءهم صف سياسي ثان وثالث. ثم شباب انتفاضة الإنترنت الأولى. فهم اليوم أكثر تحسبا. وتجربة. ونضجا. وربما أشد انضباطا في مسايرتهم، للجيل القيادي البارز الذي سبقهم.

هل هذا الرباعي الليبرالي - الإسلامي قادر على إسقاط الرئيس مرسي؟ أو على الأقل، ثنيه عن «فرمانه» السلطاني؟ يخطئ زعماء المعارضة، إذا ظنوا أن مهمتهم إسقاط الرئيس مرسي والإخوان. وإيقاع مصر في الفوضى. دعوا الإخوان ليحكموا. ما زالوا يملكون تفويضا، بل ما تزال هناك فرصة للحياة بعد الدستور. نعم، ربما عيوبه. ونقائصه. وغموضه. وتناقضاته، أكثر من فضائله. لكن يتضمن ضمانات للحرية الدينية الشخصية في المجتمع المدني. كالزواج. والطلاق. والميراث...

لا حاجة لاستدعاء انقلاب عسكري. الفرصة المتاحة كبيرة لانتقال زعماء المعارضة من «رد الفعل» إلى «الفعل». هناك انتخابات في فبراير أو مارس المقبلين، إذا ما أقر الدستور في الاستفتاء. الفرصة متاحة للانتقال من هلامية المعارضة، إلى التخطيط. التنسيق. بالاندماج. بالائتلاف. بالتحالف، لانتزاع أغلبية مشتركة في البرلمان المقبل.

هذا هو الطريق الوحيد. والصحيح، للتغيير الديمقراطي. للانتقال من شعبوية الشارع، إلى منطق دولة المؤسسات. والحوار والقرار، في غرفها وردهاتها.

ما يجمع المعارضة أكثر مما يفرقها. دبلوماسية عمرو موسى قادرة على التنسيق بينهم: طرق. وتليين معدن أبي الفتوح الأكثر تحفظا. وصمتا. ولإخراج اشتراكية البرادعي من «فرن» وكالة الطاقة النووية التي كان يديرها. ثم لتحقيق مصالحة بين ناصرية صباحي والدولة الخليجية الأكثر استعدادا للاستثمار الإنمائي في مصر أكثر انفتاحا. وديمقراطية. واستقرارا.

لست رومانسيا حالما. يكفي أن أذكِّر بأن صباحي وأبا الفتوح. وموسى، نالوا في الانتخابات السابقة 11.4 مليون صوت (في مقابل 5.7 مليون صوت فقط للرئيس مرسي)، لو أنهم خاضوا الانتخابات، بمرشح واحد متفق عليه بينهم.