أي بديل نريد؟

TT

ليس من الحصافة في شيء أن ينتهج المعارض خطا يخدم نظاما يدمر وطنه ويقتله شخصيا. وليس من الحكمة دخول معارك يتم خلالها تقاسم جلد الدب قبل اصطياده، على الرغم من أن مخالبه ما زالت مغروسة في جسدنا، ويمكن أن تودي بحياتنا.

كان من المفترض أن تتم تعبئة وتوحيد أعظم قدر من القوة قبل رحيل النظام، ليكون إسقاطه مؤكدا وناجحا. ومع أنه من المنطقي ألا تتفق جميع الآراء والمواقف في أي حراك مجتمعي واسع ومتشعب كالحراك السوري، فإن بروز منظمات كانت هامشية عند بدء الثورة، لكنها تغلغلت إلى الشارع واحتلت موقعا مميزا داخل المعارضة، التي تبدل طابعها ولم تعد ما كانت عليه عند بدء الحراك، دل على وجود خلل خطير في العمل العام، مرده إلى أن هذه المنظمات لم تقدم أي إضافة إيجابية إلى ما يتعلق بإسقاط النظام: هدف الثورة المباشر، وإنما فرضت عليها هدفا يسود حوله خلاف جدي على مستوى تعبيراتها السياسية والعسكرية، أدى إلى تشتيت الجهود وإنهاك القوى وتمزيق الصفوف ووضعها بعضها في مواجهة بعضها الآخر، مثلما نرى هذه الأيام في مناطق مختلفة من سوريا، يعتبرها من يسيطرون عليها محررة من النظام وأطراف المعارضة في وقت واحد، على الرغم من أن المعركة ضد النظام لم تنته وليست واضحة النهايات بعد، وعلى الرغم من أن استمرارها يجعل التناقض الرئيسي معه وليس مع من يقاتلونه من المعارضين، مهما كانت انتماءاتهم مختلفة وخياراتهم متباينة عن انتماءات وخيارات الجهة التي حررت هذه المناطق، التي تعلن تصميمها على إخضاعها لحكم فئوي وغير متوافق عليه، أخذ بالفعل صورة إمارة إسلامية أعلن عن قيامها في مدينة حلب، ما لبثت أن باشرت عملها بطرد من استطاعت طردهم من مخالفيها في الموقف والرأي إلى خارج مناطق سيطرتها داخل المدينة الكبيرة، التي أحرقوا مزارات كثيرة فيها، وكتموا أنفاس سكانها وخاصة النساء منهم، اللواتي منعن من قيادة السيارات، وعوقبن أن قبض عليهن متلبسات بجرم السير سافرات أو منفردات في الشوارع.

لا ضرورة للتأكيد على ما يخلفه هذا السلوك من مشكلات لا لزوم لها، تقوض الحراك وتؤذي الشعب، وتفرض حكما طالبانيا في بلاد تثور منذ قرابة عامين ضد نظام استبدادي قديم خضعت له طيلة قرابة نصف قرن، وليس لديها رغبة في الرضوخ لحكم استبدادي جديد، يتكشف ضرره في المناطق المحدودة التي يسيطر عليها، بما يثيره من معضلات عويصة تحرف الثورة عن مسارها، وتمزق صفوف الثوار، وتقيم الحواجز والمتاريس بينهم، وبما يمثله من إرهاب يستغله النظام دون شك لكسب قطاعات واسعة كان قد خسرها من المواطنين، ويلمسه المقاتلون والمناضلون في الميدان من خلال تعرضهم لقدر من العداء لا مسوغ له، كان قد بدأ باستعمال المال السياسي ضدهم، ثم مر باستعداء الشعب عليهم، ووصل في النهاية إلى إبعادهم عن مناطق احتلها هؤلاء بالسلاح والعنف والتحريض المذهبي والآيديولوجي.

ماذا سيحدث إن تم «تحرير» بقية سوريا بهذه الطريقة؟ هل سنكافئ أمهاتنا وزوجاتنا وأخواتنا وبناتنا على تضحياتهن بمنعهن من مغادرة المنازل، كي لا يرين شيئا خارجها؟ وهل سنرى في المرأة كائنا غير إنساني لا يستحق الحرية والمعرفة والحياة الحرة، فنعطل نصف مجتمعنا ونقتل روحه؟ وهل سنستورد من الآن فصاعدا نظرتنا إلى الإسلام من أفغانستان، لنستعين بها في إلغاء ما كان أجدادنا قد نشروه في العالم من إسلام وسطي ومتسامح، وعرفوا به من سعة الصدر ونقاء القلب وصدق الإيمان، فنتقدم إلى الخلف بدل أن نتقدم إلى الأمام؟ وهل سنحول بيوتنا إلى سجون لرجالنا الأحرار، الذين هانت عليهم الشهادة في سبيل كرامتهم، التي سنستبيحها ونحن نقيس بالمساطر طول لحاهم وسوالفهم وجلابيبهم؟ وهل سيتولى أمورنا بعد حكم القسوة والفظاظة حكم الجهل والهوى، الذي سيلغي حقوقنا، بما في ذلك حقنا في اختيار طريقة نومنا وكلامنا وتناول طعامنا؟ هل سيحكمنا من يكرهون الإنسان والحرية والتقدم والحق في الحياة ويحبون العبودية والذل والقتل، الذين سيقدسون قادتهم وسيجبروننا على عبادتهم والخضوع لإرادتهم؟. كنا نؤمن أن ثورة الحرية التي تبنت قيم العالم الحديث منتصرة لا محالة، ونؤمن اليوم أيضا أنها ستنتصر في نهاية المطاف لأنها اختيار شعب عافت نفسه الاستبداد والظلم، لكننا نرى ما يوضع في دربها من حسابات جزئية وولاءات دنيا، سبق لما يماثلها أن لعب دورا جديا في تقويض حركتين لم تكونا أقل شعبية من الحركات المذهبية الحالية، وعلق قطاع واسع من الشعب آمالا عراضا عليهما، هما الحركة القومية والحركة الاشتراكية، لكن طابعهما الآيديولوجي ما لبث أن قادهما للاستناد إلى تكوينات ما قبل مجتمعية ذات ولاءات دنيا، أجبرت الشعب على القيام بثورة للإطاحة بهما. في ضوء هذه الخبرة التاريخية، يكون ضربا من التخلي عن الوطن والشعب أن يحاول مذهبيون ضيقو الأفق وغرباء عن الفكر والمعرفة وضع يدهم بالسلاح على ثورة استشهد خلالها عشرات الآلاف من المواطنات والمواطنين من أجل حريتهم، التي اعتبروها فاتحة حياة جديدة سينعمون خلالها بالعدالة والمساواة، وسيرفضون إقامة أي نمط جديد من الاستبداد، ولكن المضاعف هذه المرة: مذهبيا وسياسيا.

يتواصل زخم الثورة السورية، ويتصاعد نضال السوريات والسوريين من أجل حريتهم، بينما تريد فئة مذهبية أخذ بلادنا إلى فوضى تجعلها غير قابلة للحكم، وعاجزة عن استعادة وضعها الطبيعي، لفترة طويلة مقبلة. في مواجهة هذه الفئة، تصير الحرية قدر شعبنا وسبيله إلى الحياة والكرامة، وطريقنا إلى المستقبل، الذي يجعلها خيارا إنقاذيا لا شك في أن الشعب سيتمسك به ويرفض أي نظام غيره، لتعارضه مع مصالح ورغبات معظم المواطنات والمواطنين، ومع أمن واستقرار المنطقة العربية برمتها.

ستقف سوريا خلال الفترة القصيرة المقبلة على مفترق طرق، ليس من المؤكد أنه سيأخذها إلى الحرية التي يصبو شعبها إليها، إن أفلت زمام الأمور من أيدي الوطنيين من أبنائها في المعارضة السياسية والمقاومة المسلحة. لذلك، من المطلوب اتخاذ ترتيبات تجعل الخيار الديمقراطي حتميا، وإلا وقع ما لا يريده وضاعت البلاد وهلك العباد. هل سيكون السوريون على مستوى المسؤولية التي تلقيها على عاتقهم هذه المهمة؟ هذا هو السؤال الذي يتوقف على بلورة إجابة صحيحة عنه مصير ومستقبل وطننا وشعبه!