أصبحتَ وطنا لا مواطنا

TT

إلى من يهمه الأمر، إذ كان يهمه الأمر، وبعد.

يظل الإنسان فردا إلى أن يصبح حاكما. كفرد، يستطيع أن يحب من يشاء، أن يعمل لعائلته ولنفسه، أن يحرص على أصدقائه وأقربائه، أن يرفض الذهاب إلى العمل إذا تكدر مزاجه، أن يعارض من يشاء، أن يقول رأيه صراحة بكل من وما لا يعجبه.

للأسف، عندما يصبح هذا الفرد حاكما، يفقد كل هذه الحريات – باختياره - دفعة واحدة. إذا تكدر مزاجه عليه ألا يعبس وإلا اهتز الاقتصاد. وإذا زاره ثقيل أو خصم أو لجوج أو ملحاح، عليه أن يتظاهر بأنه كان ينتظر فرصة اللقاء منذ أن وعى الحياة وتبلغ أن من معالم السادة التشرف بمعرفة حضرته.

عندما يصير الفرد حاكما يصير لكل الناس في كل ما يفعل. عليه أن ينسى خارج باب المكتب كل عاداته وعلاقاته وطقوسه ومواقفه السابقة. لم يعد الأخ فلان بل الرئيس فلان. لم يعد حزبا بل دولة. ولم يعد يستطيع أن يفكر بحرية المواطن بل بمسؤولية الوطن.

ولأنه من غير المعقول امتحان الرئيس في دورة خاصة، يترك كل شيء إلى ما هو أهم من الخبرة: إلى الضمير. ويطلب منه أن يقسم على الدستور حتى لا يخطر له لحظة أن يماري القسم. لماذ أدرجت هذه العادة عبر القرون؟ لأن النفس البشرية ضعيفة تميل إلى التسلط، كما حذر ثوكيديس، أبو «الواقعية السياسية» قبل نحو 25 قرنا. حاول أن تراجع التاريخ، سريعا أو مليا، قديما أو حديثا أو حاليا، سوف ترى أن النزعة التي أودت بالرجال وأحيانا بالأوطان، هي التسلط. إما الداخلي أو التمددي أو الاثنان.

لاحظ، لماذا قام «الربيع العربي» ولماذا يقوم من جديد. تذكر الانطباع لديك، ولدى العالم أجمع، أنه لم يكن هناك أعتى من نظام صدام ولا أخطر من سلوك القذافي ووضع جثث الخصوم في الثلاجات، ولا أرعب من النظام الأمني السوري. القاتلون في قلب دمشق والجيش المنشق على الجيش يدمر أسطورة العسكريتاريا العربية.

فلماذا المغامرة؟ لماذا الإصرار مرة أخرى على امتحان إرادة الشعوب؟ أنت أب – في المبدأ – لا رئيس. قامت الثورة التي أدت إلى وصولك، بسبب العنت والحزب الواحد وهالة الرجل الذي لا يطعن عليه لأنه نسي، مع مرور الزمن، القسم الذي أداه. نسيه بعد عقدين لا بعد شهرين. ونسيه غيره من قبله.

والنسيان، في القانون، حجة غير مقبولة. عندما يصير الرجل حاكما يحل عليه الظلم فورا: لا أعذار بعد اليوم بل مسؤوليات. لم تعد فردا. أصبحت دولة ووطنا، وعليك أن تفكر وتحلم وتتصرف كدولة ووطن. إذا رأيت بلطجية أمام دار القضاء أرسلهم إلى المحكمة. هؤلاء ليسوا مؤيدين. هؤلاء أضروا بك أكثر من خصومك.