مصر: مخاطر استراتيجية العبوس والانسحاب

TT

هل يحاول الديمقراطيون المصريون ارتكاب كل الأخطاء الممكنة؟

وإذا افترضنا وجود ديمقراطيين من الأساس في هذا البلد الذي خرج مؤخرا من ستة عقود من الديكتاتورية، يبدو أن الجواب سيكون: نعم.

جاء الخطأ الأول الذي ارتكبه هؤلاء الديمقراطيون في أوائل عام 2011 عندما عرض نظام مبارك الضعيف الدخول في مفاوضات للاتفاق على المرحلة الانتقالية في البلاد. رفضت الحشود المتجمعة في ميدان التحرير هذه المفاوضات جملة وتفصيلا، رغم أنهم أدركوا في وقت متأخر أنه كان بإمكانهم إملاء شروطهم على الديكتاتور الطاعن في السن الذي كان يبحث عن طريقة مشرفة للخروج من التاريخ. ومن خلال المظاهرات اليومية، استطاع هؤلاء الديمقراطيون تحويل الشوارع إلى الساحة السياسية الرئيسية في مصر، ولكنهم لم يدركوا أن سياسات الشارع تختلف عن السياسات الديمقراطية، وأنه إذا كان من الممكن تحديد مصير البلاد في الشارع، فإنهم لن يكونوا قادرين على مواكبة الموارد التنظيمية الخاصة بالجماعات الإسلامية.

وبمجرد الإعلان عن تنحي مبارك، تحرك الديمقراطيون المصريون، أو على الأقل أولئك الذين يصفون أنفسهم بهذا الاسم، نحو اقتراف خطئهم الثاني، الذي جاء هذه المرة عن طريق قطع قنوات الاتصال مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي كان يحاول، في ظل غياب المؤسسات الأخرى، الحفاظ على سفينة الوطن.

قامت حشود المواطنين في ميدان التحرير بإبعاد نفسها بصورة منهجية عن السياسات الحقيقية، تاركين الساحة خاوية أمام العسكر وجماعة الإخوان المسلمين، التي ظلت شريكا للمجلس لفترة طويلة قبل أن يتحولا إلى خصوم.

وفي الوقت الذي كان فيه الديمقراطيون المصريون يجلسون في مقاهي ضاحية الزمالك عابسي الوجه ويتأوهون، قام العسكر و«الإخوان المسلمون» بكتابة وتنفيذ السيناريو الخاص بهم، حيث تمكنت الجماعة من الحصول على ما يقارب 40 في المائة من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية الماضية، بينما تمكنت من اجتذاب ما يزيد على 50 في المائة من الناخبين في الانتخابات الرئاسية، بعد انقسام الأصوات بين مرشح العسكر ومرشح الإسلاميين في الجولة الثانية من الانتخابات.

وبعملية حسابية بسيطة، سوف يتضح أنه إذا ما كان معسكر التحرير قد قام بتسمية مرشح يتمتع بمصداقية كبيرة في الانتخابات الرئاسية أو حتى دعم مرشح المجلس العسكري أحمد شفيق، لما كان مرسي قد أصبح رئيسا للجمهورية اليوم.

وبمجرد انتهاء الانتخابات الرئاسية، كان يتوجب على هؤلاء الأشخاص، باعتبارهم ديمقراطيين، أن يعترفوا بمرسي رئيسا للبلاد ويعرضوا العمل معه لإدارة المرحلة الانتقالية وصياغة مستقبل البلاد. وبدلا من ذلك، تشبث الديمقراطيون بسياسة العبوس وتوجيه السباب والانتقادات من على الهامش، ولكن الأسوأ من ذلك كان مقاطعتهم للجنة المكلفة بصياغة الدستور الجديد. وليس من المستغرب أن هذه المقاطعة قد أعطت للإسلاميين مطلق الحرية في إصدار هذه الوثيقة الطويلة والمربكة والرجعية للغاية التي ستؤدي إلى خلق المزيد من المشاكل في مصر.

ورغم أن المظاهرات والمقاطعة والإضراب عن الطعام والمسيرات الاحتجاجية تعتبر أدوات فعالة في زعزعة استقرار الحكومة أو حتى إقالتها، في بعض الحالات النادرة، فإن الأنظمة الديمقراطية لا يمكن بناؤها بمثل هذه الأساليب. ربما يكون الأمر الأهم من ذلك هو عدم الحاجة لاستخدام مثل هذه الأساليب عندما تكون هناك إمكانية للمشاركة المؤسسية، حيث كان بمقدور الديمقراطيين المصريين المشاركة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، أو حتى شغل مقاعدهم في لجنة صياغة الدستور الجديد.

أما الآن، فإذا كان الديمقراطيون المصريون لا يرغبون في تمرير مسودة الدستور التي صاغها مرسي وأصدقاؤه، فيتوجب عليهم محاولة محاربتها باستخدام أسلوب أفضل من أعمال الشغب التي تجري في الشوارع، حيث من الممكن المطالبة بإجراء حوار مع الرئيس للتفاوض على تعديل بعض النصوص. وفي الوقت نفسه، ينبغي عليهم إخبار المصريين بالبنود التي يعترضون عليها وسبب هذا الاعتراض، والنصوص التي يقترحونها بديلا عنها. يعد قول: «لا» أمرا سهلا، وربما يعتبر تكتيكا لا مفر منه إذا ما غابت المساحة المفتوحة أمام النشاط السياسي. ولكن هذه المساحة تتواجد بالفعل في مصر في هذه الآونة، ولذا يجب على هؤلاء الذين يقولون «لا» أن يخبرونا بما يقترحونه بديلا عن ذلك.

وعلى النقيض من الديمقراطيين، استوعب الإسلاميون في مصر الدرس جيدا، فلم يعودوا مصرين على الادعاء بأن الأمة الإسلامية ليست في حاجة لدساتير في ظل وجود القرآن الذي يمكن اعتباره دستورا، كما توقفوا عن الزعم بأن «الإسلام هو الحل الوحيد»، بالإضافة إلى تخليهم عن عقود طويلة من المعارضة لإقامة جمهورية على النمط الغربي، بها رئيس منتخب بدلا من خلافة إسلامية يحكمها خليفة.

لقد تخلى الإسلاميون أيضا عن الأساليب التي أثبتت فشلها في تقريبهم للسلطة، حيث توقفوا، في الوقت الراهن على الأقل، عن القيام بالاغتيالات، أو الهجمات الانتحارية، أو السيارات المفخخة، أو اختطاف وقتل السياح الأجانب، أو حتى استخدام لباس معين كمظهر من مظاهر الإرهاب البصري.

وبعبارة أخرى، قدم الإسلاميون بعض التنازلات أمام الواقع الذي يعيشون فيه، حيث إنهم يدركون جيدا أنهم يتمتعون بقاعدة دعم شعبي متواضعة لن تمكنهم من فرض ذلك النوع من الاستبداد الديني الذي لطالما حلموا به، وهو ما يعد تطورا كبيرا وفرصة لا ينبغي إهدارها.

وبطبيعة الحال، قد لا يكون الإسلاميون صادقين في قبولهم لقواعد اللعبة السياسية، فربما يكونون مثل الذئب الذي يرتدي ثوب الحمل، ولكن لا يمكن لأي شخص ديمقراطي الحكم على خصومه استنادا إلى نواياهم المحتملة.

لا ينبغي على الديمقراطيين المصريين مقاطعة عملية إقرار الدستور الجديد، حيث إن الإقدام على مثل هذه الخطوة سيكون بمثابة التوقيع على شيك على بياض لصالح الإسلاميين.

وفي النظم الديمقراطية، سوف ينجح أي شخص يستطيع إقناع غالبية الناس بانتخابه في إقرار برنامجه الخاص، ولذا، ينبغي على الديمقراطيين المصريين التوحد خلف استراتيجية موحدة لطريقة التعامل مع مسودة الدستور التي أعدتها اللجنة التي انسحبت منها معظم التيارات السياسية. وبالنظر إلى مدى ضعف القاعدة الإسلامية المتشددة، فأنا أعتقد أنه من الممكن إقناع غالبية المصريين برفض المسودة في الاستفتاء الدستوري المزمع. يتوجب على الديمقراطيين الخروج من التحرير والمقاهي والذهاب إلى القرى والعشوائيات والأسواق والمصانع والجامعات والمكاتب لإخبار الناخبين بالآثار التي ستترتب على إقرار مسودة الدستور.

ولكن المشكلة الوحيدة الآن هي ضيق الوقت، حيث إن تغيير استراتيجية العبوس والانسحاب واستبدال المشاركة الفعالة والنشطة بها يتطلب وقتا، وهذا هو السبب وراء محاولة مرسي تسريع الأمور، على أمل أن يواصل خصومه اقتراف الأخطاء.