نصيحة مكيافيللي.. وحكاية الصدفة في التاريخ

TT

«تخلص من هؤلاء الذين أوصلوك إلى الحكم» واحدة من أشهر نصائح مكيافيللي للأمير، وهي كما ترى للوهلة الأولى تتسم بالسفالة والانحطاط. لا أحد يتخلص ممن أوصلوه إلى الحكم إلا في حالة واحدة، هي أن يكون وغدا ناكرا للجميل. غير أني أطلب منك الترفق بأفكار الرجل، كما أطلب منك أن تنسى أنه مفكر سياسي وغد، ولو لعدة دقائق. عندها ستكتشف أن هذه النصيحة أخلاقية تماما، لأنها تتفق والمصلحة العامة؛ من المستحيل أن تجيد أصول الحكم وهناك من يطالبك في كل لحظة بتسديد دين كبير عليك، دين لا تعرف ولن تعرف مقداره. لو لم تتخلص من هؤلاء الذين أوصلوك إلى الحكم، فستفشل حتما في مهمتك، لأنك في كل لحظة ستجد نفسك مطالبا بإرضائهم وسد أفواههم وتغذية أطماعهم ومطامعهم والاستجابة لما يقدمونه لك من أفكار.

ستكون مضطرا لتمييزهم عن الآخرين، وبذلك تخلق لنفسك أعداء جددا في كل لحظة بلا ضرورة أو مبرر. هكذا ينصرف مجهودك أو الجزء الأكبر منه إلى الدفاع عن نفسك ضد أولئك الأعداء الذين يتكاثرون كالفطر، فلا تجد وقتا لإقامة العدل بين مواطنيك، أو حمايتهم من أعداء الداخل والخارج؛ فيطمع فيك كل طامع في تمزيق أرض الوطن. أي ستفشل كحاكم وأنت تعرف بالطبع عدد الحكام الفاشلين الذين علقوا على أعواد المشانق، أو كانوا محظوظين فتم سجنهم أو نفيهم فقط. هكذا ترى - يا عزيزي القارئ - أن نصيحة ميكيافيللي كانت أخلاقية تماما إذا تأملناها من منظور رجل الدولة.

نصيحة أخرى «تخلص من أعدائك دفعة واحدة ثم تفرغ لإقامة العدل». الواقع أن الحاكم الوحيد في طول التاريخ وعرضه الذي نفذ هذه النصيحة حرفيا بقوة ووضوح وانضباط ووحشية، كان هو محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة. فبعد أن تولى الحكم أدرك على الفور أن وجود آلاف المماليك المتناحرين والمعادين له، لن يكون له سوى نتيجة واحدة هو جلوسه في نهاية الأمر على الخازوق. لم يكن الرجل يعرف القراءة والكتابة، لذلك كان مساعدوه يقرأون له كتابا يوميا، وكان تعليقه عند سماعه كتاب الأمير هو: هذا الرجل لا يعرف الكثير عن شؤون الحكم.

غير أني أعتقد أن النصيحة الأخيرة قد استوقفته طويلا، وأنه فكر فيها طويلا وقرر تنفيذها حرفيا، وهذا ما حدث؛ وجّه دعوة لنحو 5 آلاف مملوك لحضور حفل توديع ابنه طوسون الذاهب لتأدية فريضة الحج، وبعد خروج ابنه ورجاله من باب القلعة أغلقت الأبواب وانهال عليهم الرصاص من كل جانب. بعدها تفرغ الرجل لإقامة مصر الحديثة التي نتولى نحن تدميرها الآن بغير مماليك وبغير أعداء. وهو ما يجعلني أقول لك: انسَ هذه النصيحة؛ فلم يعد لها مبرر في العصر الحديث. في عصرنا هذا نحن لا نقضي على أعدائنا، بل ندخل معهم في حوار لمعرفة أسباب عداوتهم لنا لمعالجتها، ولكن في كل الأحوال علينا أن نكون أقوياء لكي لا يتحول الحوار إلى «هلضمة» أو إلى استجداء.

ولكن دعني أركز على نصيحة ذلك المفكر الذي أثبت لك لتوي أخلاقيتها.. رئيس جمهورية مصر الآن الدكتور محمد مرسي الذي تم انتخابه ديمقراطيا، لم تصل به أصوات الناس فقط، بل جماعة الإخوان المصرية. وهو حتى الآن وحتى غد وبعد غد، لا يستطيع التخلص من الجماعة، ولا يرغب في ذلك، وبالقطع لا يفكر في ذلك. بالطبع هو - على الورق - فقط، مرشح لحزب العدالة والحرية، غير أنه يعرف وأنت تعرف وأنا أعرف أن هذا الاسم ليس إلا اسم الشهرة لجماعة الإخوان المسلمين. ولذلك هو عاجز عن قطع الحبل السري الذي يربطه بالجماعة. عندما كان السيد خيرت الشاطر مرشحا للجماعة أذكر أنه قال بوضوح وقوة: أنا مرشح حزب وجماعة.

الواقع أنه من الناحية العملية، عندما نتكلم عن الحزب فنحن نعني مكتب الإرشاد في الجماعة. هذه هي مشكلة الحكم والحزب والجماعة، من ناحية الآليات السياسية، «الإخوان» بوصفهم جماعة، ليسوا في حاجة إلى الجماعة كتشكيل غامض الهوية، وهو تشكيل ولد وعاش في ظروف ساعدت على وجوده وتماسكه، غير أن طبيعة العصر الذي نحياه الآن تأبى وجوده.

من أدبيات الحركة السياسية في مصر ومفرداتها، أن جماعة الإخوان وصلت إلى الحكم بعد 80 عاما من السعي للوصول إليه. وهي الفكرة التي أزعم أنها خاطئة تماما؛ لم يحدث أن الجماعة في تاريخها الطويل عملت بالفعل على الوصول إلى الحكم أو فكرت في إمكانية ذلك. فمن الناحية العملية، كانت مشغولة طول الوقت بحماية نفسها والحفاظ على سريتها وإدارة شؤونها الإدارية والمالية وحماية أسر من يسجن من أفرادها بتخصيص أموال لها. عمليا لم يكن متاحا لها فرصة التفكير في السياسة أصلا. الأسوار التي أقاموها حول الجماعة طوعا أو قسرا، جعلتهم ينعزلون بتفكيرهم عن التفكير السياسي، من المستحيل أن تقرأ مذكرات تشرشل وديغول، من المستحيل أن تقرأ صعود وسقوط الإمبراطورية الغربية، بينما الوقت المتاح لك لا يكفي إلا لقراءة ما فعله، وقاله السلف الصالح. أحزاب المعارضة بالضرورة ستدرس بدقة كل خطوات الحزب الحاكم، ستراجع خططه ومشاريعه، بحثا عن نقاط ضعفه وقوته، لكي تكون جاهزة لحكم الناس عندما تتاح لها الفرصة لذلك. هناك أمر آخر، وهو ما نسميه في المسرح والسينما الـ«casting»، هناك درجة قبول معينة عند من يحصلون على أدوار البطولة، في الفن والسياسة، لا بد من الاعتراف بتميز بعض الأشخاص عن غيرهم، هذا هو ما نسميه الحضور، في السياسة والفن لا تحضر الأشخاص بمؤهلاتهم أو خبراتهم أو ثقة رؤسائهم بهم، بل بدرجة الحضور عندهم، وهي ليست من صنع أحد، هي من صنع الله سبحانه وتعالى، من المستحيل أن تستبعد السيدة فاتن حمامة - في الفن والسياسة - وتعطي دورها لفتحية عبد المنعم مثلا، وأعتذر لصاحبة الاسم لو كان لها وجود. ولكن هذه الأمور جميعا لا تنطبق على جماعة الإخوان كما اتضح من ممارستها للحكم. كما لا تنطبق على كل الجماعات الثورية السياسية والعقدية التي لا تعرف العلنية. هكذا فوجئوا بالحكم يأتي إليهم على صينية الصدفة.

ولكن ذلك المفكر الفنان العظيم الذي كان يكتب الكوميديا، صديقي نيقولا ميكيافيللي، تنبه أيضا لحكاية الصدفة في التاريخ. ففرّق بين الأمير التقليدي الذي يرث الحكم من خلال الشرعية والأمير الذي يصل إليه بالصدفة. هذا هو أمير الصدفة الذي يجب عليه أن يضاعف مجهوده للحفاظ على الحكم.

ربما بحكم السن وما يفرضه من ضعف، أنا أريد مصر هادئة وآمنة، لكي تشعر الناس بعظمة الحياة، أريد جوا فرحا يسمح لي بكتابة الكوميديا، ويسمح لك بالاستمتاع بها. ولذلك أعترف بأنني أحاول تقليد أستاذي العظيم عندما أقول لأمراء الصدفة في مصر: سأعطيكم مثالا واحدا للكذب على النفس الذي تأباه السياسة في هذا العصر؛ حكاية المستشارين الذين تخلوا عن الرئيس عند أول مشكلة في نهاية الشارع.. سموكم يا أمراء لم تختاروهم جميعا ليعملوا حقا مستشارين، بل لتقنعوا الناس بأنهم كذلك وهم ليسوا كذلك.