اختطاف صوت الشعب.. بلا تأجيل

TT

«في المسائل الضميرية.. لا مكان لموضوع الأكثرية».

(المهاتما غاندي)

سيئات أنظمة ما قبل «الربيع العربي» كثيرة، إلا أن بينها سيئة أساسية هي أن سلبيات الأنظمة السابقة غطت تماما، أو كادت، على السلبيات المحتملة للبدائل.. فبعد اعتماد الأنظمة السابقة كحال تونس ومصر وليبيا، وتلك المرشحة لأن تغدو سابقة كنظام بشار الأسد في سوريا، على «أجهزة الأمن» وسيلة رئيسية للتفاعل مع الشعب، استغلت تلك الأنظمة إمساكها «أمنيا» لإطلاق آفات النهب والفساد والمحسوبية.. في ظل عائلات متسلطة لا تشبع ولا ترتوي ولا ترعوي.

لقد امتد الحكم «العائلي - الأمني» لعقود كادت تتصحر خلالها الحياة السياسية، بينما كان المواطن فريسة لليأس والأمل والتشوش في الرؤى والأولويات. كانت العقود الأربعة الأخيرة على امتداد عالمنا العربي فترة تساقط عدد من المطامح والشعارات السياسية، وأيضا تلاشي مسلمات عاشها المواطن فصارت جزءا منه من دون أن يكلف نفسه عناء التمعن في جوهرها وتبعاتها.

بعد 1967 اهتز الخيار القومي وسقط في خريف 1970، ثم لفظ أنفاسه الأخيرة مع كامب ديفيد عام 1978.. و مع طي صفحة العقد المنتهي عام 1989 بسقوط الاتحاد السوفياتي بعد ترهل واحتضار سقط عمليا البديل الاشتراكي.. لجهة فقدان الحركات اليسارية والتقدمية العربية السند الكفيل بمساعدتها على الصمود في وجه القوى اليمينية التقليدية والليبرالية. وكانت روح ما نظر إليه في الأساس على أنه بديل «اشتراكي» و«مناضل»، قد أخذت تخبو مع التحول التدريجي لأنظمة «النضال» ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين إلى أنظمة أمنية غايتها الأولى والأخيرة تدجين مواطنها و«احتلال» وطنه بدلا من «تحرير» فلسطين، ونبذ الشعارات التقدمية الفضفاضة في عملية تحول منهجية إلى بنى طائفية وعشائرية وعائلية ومافيوية.

أليس لافتا كيف أن حزبا واحدا هو حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي تشمل شعاراته وخرائطه توحيد العالم العربي من موريتانيا إلى الصومال وإريتريا (!) عجز عن توحيد القطرين الشقيقين العراق وسوريا، اللذين حكمهما في وقت واحد نحو 40 سنة؟! لماذا؟ لثلاثة أسباب: أولها أنه ما عاد حزبا بعدما شرذمته الصراعات الداخلية و(الحركات التصحيحية). والثاني أنه ما عاد يؤمن بـ«البعث العربي» بل أمسى أجنحة متباغضة.. طائفية وعائلية ومناطقية. والثالث انه تنكر للاشتراكية بعدما جمعت «مافياته» العائلية الثروات الطائلة.

في ليبيا الحديث يطول حول التدمير الممنهج لوجود الدولة, ومن ثم التلاعب بالحساسيات القبلية والمناطقية داخل البلد الواحد، بل أحيانا داخل المحافظة الواحدة.. كمحافظة مصراتة, بين كتلتيها السكانيتين الأكبر مصراتة وبني وليد اللتين عانتا في الماضي من تناحر قديم ما زالت آثاره مستمرة حتى اليوم.

أما تونس ومصر فظل فيهما وجود يعتد به لـ«الدولة» من حيث هي مفهوم ومؤسسات، كوجود مؤسسة عسكرية وأجهزة أمنية قوية، وأرضية نقابية متطورة، وانفتاح ثقافي لنخبها مع الخارج, وهذا بالرغم من عيش البلدين لفترة غير قصيرة في ظل قيادتين تاريخيتين هما الحبيب بورقيبة وجمال عبد الناصر.

الإسلام أيضا كان حاضرا في الحياة السياسية والثقافية في البلدين، بتأثير الزيتونة والأزهر. ولذا ما كان مستغربا أن يطمح الإسلام السياسي لدور قيادي بعد إسقاط أنظمة حرصت طويلا على أن تجعل منه «فزاعة» لمناصري الحداثة والانفتاح. وفي المقابل، كان واضحا أن نهج الإبعاد والعزل الذي فرضه نظاما زين العابدين بن علي وحسني مبارك زاد الحركات الإسلامية البراغماتية، متمثلة في «النهضة» (في تونس) و«الإخوان المسلمون» (في مصر)، مرونة وحصافة... وقدرة على المناورة والتجنيد. بل إن هذين التنظيمين، وإن كانا يشكلان الحاضن الحقيقي لحركات إسلامية أكثر تشددا، فإنهما استغلا تشدد القوة الأصولية والجهادية والتكفيرية الصاعدة لعرض طروحاتهما على أنها طروحات «وسطية» و«معتدلة» قابلة للتعايش مع الرأي الآخر، بل لا بد لأصحاب الرأي الآخر من التعايش معها والقبول بها.

منذ مطلع عام 2011 طرح «النهضة» و«الإخوان» نفسيهما كلاعبين «ثوريين» مستعدين للشراكة في الثورة، ومن ثم في اللعبة الديمقراطية التي تقوم في كل الدول التي تمارس الديمقراطية الانتخابية على مبدأ أن «الشعب هو مصدر السلطات». وكان هذا تحديا خطيرا لتنظيمين دينيين يقوم فكرهما على الشريعة فلا يتناقض معها. إن تدوير الزوايا في مجتمعات حية كالمجتمعين التونسي والمصري مسألة صعبة، وربما لهذا السبب بالذات نرى اليوم ما نراه من آلام نضج للثورتين التونسية والمصرية.

قد يقول قائل، ولعله ليس على خطأ، إن الثورتين التونسية والمصرية تفجرتا حقا خلال الأشهر القليلة الماضية.. فلقد نجح التنظيمان الإسلاميان الكبيران في البلدين في تحاشي العداوة المفتوحة مع شركاء الثورة على النظامين السابقين، غير أن العقلاء في البلدين كانوا يدركون أن زواج المصلحة سينتهي بمجرد الوصول إلى الهدف الذي من أجله عقد. وفعلا نجح «نهضويو» تونس بتصدر نتيجة الانتخابات الأولى التي خاضتها فصائل متعددة متفرقة من مختلف الأطياف من دون أن يحصلوا على أغلبية مطلقة، وهو ما فرض عليهم التعايش مؤقتا مع أكبر المنافسين من اليسار والوسط الليبرالي. في حين استفاد «إخوان» مصر و«سلفيوها» أكثر من تشتت شركائهم في الثورة فحازوا في ما بينهم على أكثر من ثلثي مقاعد أول برلمان منتخب.

هذا المشهد مفيد جدا لفهم طريقة تعامل الفريقين في معركة الثورة الحقيقية المندلعة اليوم في تونس ومصر.. فـ«النهضويون» المحرجون من تشدد الجماعات الأصولية التونسية، والحريصون على ألا يستغل خصومهم الليبراليون واليساريون هذا الواقع لتوحيد صفوفهم في جبهة عريضة تواجه «الإسلام السياسي» ككل، فتحوا الآن معركتهم مع الاتحاد التونسي للشغل، أحد أعرق وأقوى التنظيمات النقابية في العالم العربي.

أما في مصر، فلقد ارتكب الرئيس محمد مرسي الفائز بالانتخابات الرئاسية بفارق أقل من 2 في المائة من الأصوات عن منافسه، سلسلة أخطاء تنم عن صعوبة - إن لم نقل استحالة - قبول «الإخوان» بشريك لهم في السلطة. وكان التبريران الجاهزان عند ارتكاب كل خطأ أفدح من سابقه.. «حكم الأغلبية» (أي الديمقراطية) و«حماية الثورة»!

مرسي ينسى أويتناسى أن نسبة عالية ممن صوتوا له في الدورة الثانية الحاسمة من الانتخابات الرئاسية إنما صوتوا ضد منافسه وليس له ولمشروعه، وقسم كبير منهم يتظاهر ضده اليوم. كذلك فإن مرسي ينسى أو يتناسى أن الدساتير تعد بالتوافق الوطني لا بالأغلبيات المؤقتة.

وأخيرا وليس آخرا، في بلد يزعم أنه قرر السير في طريق الديمقراطية.. الشعب يظل مصدر السلطة وليس مكتب الإرشاد.

عن أي أغلبية يتكلم الرئيس مرسي ومن يقفون خلفه؟ هل نقصد ظلم «الأغلبية».. كتلك التي يتسلح بها بنيامين نتنياهو (المنتخب ديمقراطيا) لتبرير رفضه الدولة الفلسطينية، ومن قبله معارضة دعاة الفصل العنصري (المنتخبين ديمقراطيا أيضا) منح الحقوق المدنية للسود في ولايات الجنوب الأميركي؟

إذا كان الرئيس مرسي حقا متحرقا للاستماع إلى صوت الشعب - كل الشعب - فإن موقف الشعب لن يتغير كليا خلال أسبوع أو شهر من الآن. وعليه، فأين الضرر من تأجيل التصويت على دستور مطعون بوفاقيته، ومشكوك بما سيفعله بمستقبل المواطنة في مصر؟